المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4508 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
صلاة الليل بإشارات القرآنية
2024-04-18
الائمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
2024-04-18
معنى الصد
2024-04-18
ان الذي يموت كافر لا ينفعه عمل
2024-04-18
تحتمس الثالث الحملتان الحادية عشرة والثانية عشرة.
2024-04-18
تحتمس الثالث الحملة الثالثة عشرة السنة الثامنة والثلاثون.
2024-04-18

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تنزيه موسى (عليه السلام)  
  
1045   10:36 صباحاً   التاريخ: 26-12-2017
المؤلف : أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)
الكتاب أو المصدر : تنزيه الانبياء
الجزء والصفحة : 66 - 86
القسم : العقائد الاسلامية / النبوة / الانبياء /

تنزيه موسى عن العصيان بالقتل :

(مسألة) : ان قيل : فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من ان يكون مستحقا للقتل أو غير مستحق ، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه (عليه السلام) ، وقوله : {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] وقوله : {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] ، وان كان غير مستحق فهو عاص في قتله ، وما بنا حاجة إلى ان نقول ان القتل لا يكون صغيرة لانكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام.

(الجواب) : قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال ان موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا اراده ، وانما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله ، فأراد موسى (عليه السلام) ان يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه ، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه ، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير ان يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به ، ولا فرق بين ان تكون المدافعة من الانسان عن نفسه ، وبين ان يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الامرين ان يكون الضرر غير مقصود ، وأن يكون القصد كله إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر. فإن ادى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح.

ومن العجب ، ان ابا علي الجبائي ذكر هذا الوجه في تفسيره ، ثم نسب مع ذلك موسى (عليه السلام) إلى أنه فعل معصية صغيرة ، ونسب معصيته إلى الشيطان. وقد قال في قوله (رب اني ظلمت نفسي) أي في هذا الفعل الذي لم تأمرني به ، وندم على ذلك وتاب إلى الله منه ، فياليت شعري ، ما الذي فعل بما لم يؤمر به ، وهو انما دافع الظالم ومانعه ، ووقعت الوكزة منه على وجه الممانعة من غير قصد.

ولا شبهة في ان الله تعالى امره بدفع الظلم عن المظلوم ، فكيف فعل ما لم يؤمر به ، وكيف يتوب من فعل الواجب؟ وإذا كان يريد ان ينسب المعصية إليه فما الحاجة به إلى ذكر المدافعة والممانعة ، وله أن يجعل الوكزة مقصودة على وجه تكون المعصية به صغيرة.

فان قيل : أليس لا بد أن يكون قاصدا إلى الوكزة وان لم يكن مريدا بها اتلاف النفس؟

قلنا : ليس يجب ما ظننته ، وكيف يجعل الوكزة مقصودة ، وقد بينا الكلام على ان القصد كان إلى التخليص والمدافعة ، ومن كان إنما يريد المدافعة لا يجوز ان يقصد إلى شئ من الضرر ، وإنما وقعت الوكزة وهو لا يريدها ، انما أراد التخليص ، فأدى ذلك إلى الوكزة والقتل.

ووجه آخر : وهو أن الله تعالى كان عرف موسى عليه السلام استحقاق القبطى للقتل بكفره ، وندبه إلى تأخير قتله إلى حال التمكن ، فلما رأى موسى (عليه السلام) منه الاقدام على رجل من شيعته تعمد قتله تاركا لما ندب إليه من تأخير قتله.

فأما قوله : (هذا من عمل الشيطان) ففيه وجهان :

احدهما : انه أراد ان تزيين قتلي له وتركي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان.

والوجه الآخر : انه يريد ان عمل المقتول من عمل الشيطان ، مفصحا بذلك عن خلافه لله تعالى واستحقاقه للقتل.

وأما قوله (رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي) ، فعلى معنى قول آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] والمعنى احد وجهين : اما على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وان لم يكن هناك ذنب ، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب.

وأما قوله (فاغفر لي) فإنما أراد به : فاقبل منى هذه القربة والطاعة والانقطاع. ألا ترى ان قبول الاستغفار والتوبة يسمى غفرانا؟ وإذا شارك هذا القبول غيره في معنى استحقاق الثواب والمدح به جاز ان يسمى بذلك ، ثم يقال لم ذهب إلى ان القتل منه (عليه السلام) كان صغيرة ، ليس يخلو من أن يكون قتله متعمدا وهو مستحق للقتل ، وقتله عمدا وهو غير مستحق ، أو قتله خطأ ، وهو مستحق.

والقسم الاول يقتضى ان لا يكون عاصيا جملة والثانى لا يجوز مثله على النبي (عليه السلام) ، لان قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز ان يكون صغيرة على بعض الوجوه جاز ذلك في الزنا وعظائم الذنوب ، فإن ذكروا في الزنا وما اشبهه التنفير ، فهو في القتل اعظم.

وان كان قتله خطأ غير عمد وهو مستحق أو غير مستحق ، ففعله خارج من باب القبيح جملة. فما الحاجة إلى ذكر الصغيرة؟

تنزيه موسى عن الضلالة والاستغفار عن الرسالة :

(مسألة) : فإن قيل : كيف يجوز لموسى عليه السلام ان يقول لرجل من شيعته يستصرخه : {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] ؟

(الجواب) : إن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة ، ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات لما رأوا من يعبد الاصنام {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138] وإنما خرج موسى (عليه السلام) خائفا على نفسه من قوم فرعون بسبب قتله القبطي ، فرأى ذلك الرجل يخاصم رجلا من أصحاب فرعون فاستنصر موسى (عليه السلام) ، فقال له عند ذلك انك لغوى مبين وأراد انك خائب في طلب ما لا تدركه وتكلف ما لا تطيقه ، ثم قصد إلى نصرته كما نصره بالأمس على الاول ، فظن أنه يريده بالبطش لبعد فهمه ، فقال له : {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] فعدل عن قتله ، وصار ذلك سببا لشيوع خبر القبطي بالأمس.

في تنزيه موسى (عليه السلام) عن الضلال :

(مسألة) : فان قيل : فما معنى قول فرعون لموسى (عليه السلام) : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] إلى قوله (عليه السلام) {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] وكيف نسب (عليه السلام) الضلال إلى نفسه ، ولم يكن عندكم في وقت من الاوقات ضالا؟

(الجواب) : قلنا : أما قوله (وأنت من الكافرين) فإنما أراد به من الكافرين لنعمتي ، فإن فرعون كان المربي لموسى (عليه السلام) إلى ان كبر وبلغ ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18].

وأما قول موسى (عليه السلام) (فعلتها إذا وانا من الضالين) ، فإنما أراد به الذاهبين عن ان الوكزة تأتي على النفس ، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل وقد يسمى الذاهب عن الشئ أنه ضال ويجوز ايضا ان يريد اننى ضللت عن فعل المندوب إليه من الكف عن القتل في تلك الحال والفوز بمنزلة الثواب.

بين خيفة موسى والوجه فيها :

(مسألة) : فإن قيل : كيف جاز لموسى عليه السلام وقد قال تعالى : {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] ان يقول في الجواب {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء: 12، 13] وهذا استعفاء عن الرسالة.

(الجواب) : أن ذلك ليس باستعفاء كما تضمنه السؤال ، بل كان (عليه السلام) قد اذن له في أن يسأل ضم أخيه في الرسالة إليه قبل هذا الوقت ، وضمنت له الاجابة ، ألا ترى إلى قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه: 9، 10] إلى قوله {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ} [طه: 29، 30] فأجابه الله تعالى إلى مسألته بقوله {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] وهذا يدل على ان ثقته بالاجابة إلى مسألته التى قد تقدمت ، وكان مأذونا له فيها. فقال : {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 12، 13] شرحا لصورته وبيانا عن حاله المقتضية لضم اخيه إليه في الرسالة ، فلم يكن مسألته إلا عن اذن وعلم وثقة بالاجابة.

في تنزيه موسى (عليه السلام) عن الكفر والسحر :

(مسألة) : فإن قيل : كيف جاز لموسى (عليه السلام) ان يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصى وذلك كفر وسحر وتلبيس وتمويه ، والامر بمثله لا يحسن؟

(الجواب) : قلنا لا بد من ان يكون في امره عليه السلام بذلك شرط ، فكأنه قال القوا ما انتم ملقون ان كنتم محقين ، وكانوا فيما يفعلونه حجة وحذف الشرط لدلالة الكلام عليه واقتضاء الحال له ، وقد جرت العادة باستعمال هذا الكلام محذوف الشرط ، وان كان الشرط مرادا ، وليس يجري هذا مجرى قوله تعالى : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وهو يعلم أنهم لا يقدرون على ذلك وما اشبه هذا الكلام من ألفاظ التحدي ، لان التحدي وان كان بصورة الامر لكنه ليس بأمر على الحقيقة ولا تصاحبه ارادة الفعل ، فكيف تصاحبه الارادة والله تعالى يعلم استحالة وقوع ذلك منهم وتعذره عليهم وانما التحدي لفظ موضوع لإقامة الحجة على المتحدي واظهار عجزه وقصوره عما تحدى به ، وليس هناك فعل يتناوله ارادة الامر بإلقاء الحبال والعصي بخلاف ذلك ، لأنه مقدور ممكن فليس يجوز ان يقال ان المقصود به هو ان يعجزوا بها عن القائها ويتعذر عليهم ما دعوا إليه ، فلم يبق بعد ذلك إلا انه امر بشرط ، ويمكن ان يكون على سبيل التحدي بأن يكون دعاهم إلى الالقاء على وجه يساوونه فيه ، ولا يخيلون فيما ألقوه من السعي والتصرف من غير ان يكون له حقيقة ، لان ذلك غير مساو لما ظهر على يده من انقلاب الجماد حية على الحقيقة دون التخييل .

وإذا كان ذلك ليس في مقدورهم فإنما تحداهم به لتظهر حجته ويوجه دلالته وهذا واضح ، وقد بين الله تعالى في القرآن ذلك بأوضح ما يكون فقال : {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 113 - 119].

تنزيه موسى (عليه السلام) عن الخوف :

(مسألة) فإن قيل : فمن أي شئ خاف موسى عليه السلام حتى حكى الله تعالى عنه الخيفة في قوله عز وجل : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] أو ليس خوفه يقتضى شكه في صحة ما اتى به ؟

(الجواب) : قلنا : لم يخف من الوجه الذى تضمنه السؤال ، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما اشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر ، فأمنه الله تعالى من ذلك وبين له ان حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى : {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68].

تنزيه موسى عن نسبة الاضلال لله تعالى :

(مسألة) : فإن قال : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن موسى (عليه السلام) : {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88].

(الجواب : قلنا : أما قوله تعالى (ليضلوا عن سبيلك) ففيه وجوه :

أولها : انه اراد لئلا يضلوا عن سبيلك ، فحذف (لا) وهذا له نظائر كثيرة في القرآن ، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى : {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وانما اراد (لئلا تضل) وقوله تعالى : {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، وقوله تعالى {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].

وقال الشاعر : نزلتم منزل الاضياف منا * فعجلنا القرى ان تشتمونا .

والمعنى ان لا تشتمونا.

فان قيل : ليس هذا نظيرا لقوله تعالى {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88] لأنكم حذفتم في الآية (ان) و (لا) معا وما استشهدتم به انما حذف منه لفظة (لا) فقط.

قلنا : كلما استشهدنا به فقد حذف فيه الكلام ولا معا ، ألا ترى أن تقدير الكلام لئلا تشتمونا. وفي الآية إنما حذف أيضا حرفان وهما أن ولا ، وانما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بازاء حذف أن في الآية من حيث كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلان على المقصود ألا ترى انهم يقولون جئتك لتكرمني ، كما تقولون جئتك أن تكرمني. والمعنى ان غرضي الكرامة ، فإذا جاز ان يحذفوا أحد الحرفين جاز ان يحذفوا الآخر.

ثانيها : ان اللام ها هنا لام العاقبة وليست لام الغرض ، ويجري مجرى قوله تعالى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه لذلك بل لخلافه ، غير ان العاقبة لما كانت ما ذكره حسن ادخال اللام ، ومثله قول الشاعر :

وللموت تغذو الوالدات سخالها * كما لخراب الدور تبنى المساكن .

ونظائر ذلك كثيرة. فكأنه تعالى لما علم ان عاقبة امرهم الكفر ، وأنهم لا يموتون الا كفارا ، وأعلم ذلك نبيه ، حسن ان يقول انك اتيتهم الاموال ليضلوا.

وثالثها : ان يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم ان الله تعالى فعل ذلك ليضلهم ، ولا يمتنع ان يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبرة في ان الله تعالى يضل عن الدين ، فرد بهذا الكلام عليه كما يقول احدنا : انما اتيت عبدي من الاموال ما اتيته ليعصيني ولا يطيعني ، وهو إنما يريد الانكار على من يظن ذلك به ، ونفي اضافة المعصية إليه.

وهذا الوجه لا يتصور إلا على الوجهين : إما بأن يقدر فيه الاستفهام وان حذف حرفه ، أو بأن يكون اللام في قوله (ليعصيني) لام العاقبة التي قد تقدم بيانها. ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين ، لم يتصور كيف يكون الكلام خارجا مخرج النفي والانكار.

ورابعها : أن يكون اراد الاستفهام ، فحذف حرفه المختص به ، وقد حذف حرف الاستفهام في اماكن كثيرة من القرآن. وهذا الجواب يضعف لان حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، مثل قول الشاعر :

 كذبتك عينك ام رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا .

لان لفظة ام يقتضي الاستفهام ، وقد سأل ابو علي الجبائى نفسه عن هذا السؤال في التفسير ، وأجاب عنه بأن في الآية ما يدل على حذف حرف الاستفهام ، وهو دليل العقل الدال على ان الله تعالى لا يضل العباد عن الدين ودليل العقل أقوى مما يكون في الكلام دالا على حرف الاستفهام. وهذا ليس بشئ ، لان دليل العقل وان كان اقوى من كل دليل يصحب الكلام ، فإنه ليس يقتضى في الآية ان يكون حرف الاستفهام منها محذوفا لا محالة. لان العقل انما يقتضي تنزيه الله تعالى عن ان يكون مجربا بشي من افعاله إلى اضلال العباد عن الدين ، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح ، من غير ان يذكر الاستفهام ويحذف حرفه. وإذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام ، وانما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذر تنزيهه تعالى عن ارادة الضلال ، إلا بتقدير الاستفهام.

فأما قوله تعالى : {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [يونس: 88] فأجود ما قيل فيه انه عطف على قوله (ليضلوا) وليس بجواب لقوله {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] وتقدير الكلام (ربنا إنك أتيت فرعون وملاه زينة واموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم.) وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة ، وأن يكون المعنى فيها لئلا يضلوا أيضا. وقال قوم انه أراد (فلن يؤمنوا) فابدل الالف من النون الخفيفة.

كما قال الاعشى : وصل علي حين العشيات والضحى * ولا تحمد المثرين والله فاحمدا.

اراد فاحمدن ، فابدل النون الفا ، وكما قال عمر بن ابي ربيعة :

وقمير بدا ابن خمس وعشرين * له قالت الفتاتان قوما اراد قومن.

ومما استشهد به ممن أجاب بهذا الجواب الذي ذكرناه آنفا في ان الكلام خبر ، وإن خرج مخرج الدعاء.

وما روي عن النبي صلي الله عليه وآله من قوله : «لن يلدغ المؤمن من جحر مرتين». وهذا نهي ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر. وتقدير الكلام : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. لأنه لو كان خبرا لكان كذبا. وإذا جاز أن يراد بما لفظه لفظ الخبر النهي ، جاز أن يراد بما لفظه لفظ الدعاء الخبر. فيكون المراد بالكلام «فلن يؤمنوا».

وقد ذكر ابو علي الجبائي ان قوما من أهل اللغة قالوا أنه تعالى نصب قوله تعالى : (فلا يؤمنوا) وحذف منه النون. وهو يريد في المعنى «ولا يؤمنون» على سبيل الخبر عنهم ، لان قوله تعالى (فلا يؤمنوا) وقع موقع جواب الامر الذي هو قوله : (ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم) فلما وقع موقع جواب الامر وفيه الفاء ، نصبه بإضمار أن ، لان جواب الامر بالفاء منصوب في اللغة. فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب ، وان لم يكن في الحقيقة جوابا.

ومثله قول القائل «انظر إلى الشمس تغرب» (بالجزم) ، وتغرب ليس هو جواب الامر على الحقيقة ، لأنها لا تغرب لنظر هذا الناظر ، ولكن لما وقع موقع الجواب اجراه مجراه في الجزم ، وان لم يكن جوابا في الحقيقة.

وقد ذكر ابو مسلم محمد بن بحر في هذه الآية وجها آخر ، وهو من اغرب ما ذكر فيها ، قال : ان الله تعالى انما اتى فرعون وملاه الزينة والاموال في الدنيا على طريق العذاب لهم والانتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال ، وعلمه من احوالهم في المستقبل من انهم لا يؤمنون. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55] فسأل موسى عليه السلام ربه وقال : رب انك اتيتهم هذه الاموال والزينة في الحياة الدنيا على طريق العذاب ولتضلهم في الآخرة عن سبيلك التي هي سبيل الجنة وتدخلهم النار بكفرهم ، ثم سأله ان يطمس على اموالهم بأن يسلبهم إياها ليزيد ذلك في حسرتهم وعذابهم ومكروههم ، ويشد على قلوبهم بأن يميتهم على هذه الحال المكروهة. وهذا جواب قريب من الصواب والسداد.

تنزيه موسى عن سؤال الرؤية لنفسه :

(مسألة) : فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] أو ليس هذه الآية تدل على جواز الرؤية عليه تعالى لأنها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسى (عليه السلام) كما يجوز ان يسأله اتخاذ الصاحبة والولد؟

(الجواب) : قلنا : أولى ما اجيب به عن هذه الآية ان يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه ، وانما سألها لقومه فقد روي ان قومه طلبوا ذلك منه ، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالى فلجوا به وألحوا عليه في ان يسأل الله تعالى ان يريهم نفسه ، وغلب في ظنه ان الجواب إذا ورد من جهته جلت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها ، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتكون المسألة بمحضر منهم ، فيعرفوا ما يرد من الجواب ، فسئل عليه السلام على ما نطق به القرآن ، وأجيب بما يدل على ان الرؤية لا يجوز عليه عزوجل.

ويقوي هذا الجواب امور :

منها : قوله تعالى : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]

ومنها : قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55].

ومنها : قوله تعالى : {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] فأضاف ذلك إلى السفهاء ، وهذا يدل على انه كان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.

ومنها : ذكر الجهرة في الرؤية وهي لا تليق الا برؤية البصر دون العلم ، وهذا يقوي ان الطلب لم يكن للعلم الضروري على ما سنذكره في الجواب التالي لهذا الكلام.

ومنها : قوله تعالى : (انظر اليك) لانا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه ، امكن ان يكون قوله انظر اليك على حقيقته ، وإذا حملنا الآية على العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام ، فيصير تقديره أرني انظر إلى الآيات التي عندها اعرفك ضرورة.

ويمكن في هذا الوجه الاخير خاصة أن يقال : إذا كان المذهب الصحيح عندكم أن النظر في الحقيقة غير الرؤية ، فكيف يكون قوله انظر اليك على حقيقته ، في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه ، فإن قلتم : لا يمتنع ان يكونوا انما التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل على حسب ما التمسوا ، قيل لكم : هذا ينقض قولكم في هذا الجواب

بين سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد ، وما يقتضي الجسمية بأن تقول : الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع ، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك ، لان الشك الذي لا يمنع من معرفه السمع انما هو في الرؤية التي يكون معها نظر ولا يقتضي التشبيه.

فان قلتم : يحمل ذكر النظر على ان المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز ، لان عادة العرب ان يسموا الشئ باسم طريقه وما قاربه وما داناه ،

قيل لكم : فكأنكم قد عدلتم عن مجاز إلى مجاز ، فلا قوة في هذا الوجه ، والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى ، وليس لاحد أن يقول :

لو كان موسى (عليه السلام) انما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول ارني انظر اليك ، ولا كان الجواب ايضا مختصا به في قوله : لن تراني ، وذلك انه غير ممتنع وقوع الاضافة على هذا الوجه ، مع ان المسألة كانت من أجل الغير إذا كان هناك دلالة تؤمن من اللبس ، فلهذا يقول احدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه : أسألك ان تفعل بي كذا وكذا وتجيبني إلى كذا وكذا ، ويحسن ان يقول المشفوع إليه : قد اجبتك وشفعتك وما جرى مجرى هذه الالفاظ. وإنما حسن هذا لان للسائل في المسألة غرضا ، وإن رجعت إلى الغير لتحققه بها وتكلفه كتكلفه إذا اختصه.

فإن قيل : كيف يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالتها ، ولئن جاز ذلك ليجوز ان يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما وما اشبهه متى شكوا فيه.

قلنا : انما صحت المسألة في الرؤية ولم تصح فيما سألت عنه ، لان مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع ، وانه تعالى حكيم صادق في اخباره ، فيصح ان يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في جوازه ، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا ينتفع بجوابه ولا يثمر علما.

وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية : قد كان جايز ان يسأل موسى (عليه السلام) لقومه ما يعلم استحالته وان كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين ، وأن ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الادلة واصابة الحق منها ، غير ان من اجاب بذلك شرط ان يبين النبي (عليه السلام) انه عالم باستحالة ما سأل فيه ، وأن غرضه في السؤال ان يرد الجواب فيكون لطفا.

وجواب آخر في الآية : وهو أن يكون موسى عليه السلام انما سأل ربه تعالى ان يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض اعلام الآخرة التي يضطر عندها إلى المعرفة ، فتزول عنه الخواطر ومنازعة الشكوك والشبهات ، ويستغني عن الاستدلال ، فتخف المحنة عنه بذلك ، كما سأل ابراهيم عليه السلام ربه تعالى ان يريه كيف يحي الموتى طلبا لتخفيف المحنة ، وان كان قد عرف ذلك قبل ان يراه. والسؤال وان وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الادراك بالبصر. قال الشاعر :

رأيت الله إذا سمى نزارا * واسكنهم بمكة قاطنينا .

واحتمال الرؤية للعلم اظهر من ان يدل عليه لاشتهاره ووضوحه. فقال الله تعالى لن تراني اي لم تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته ، ثم اكد ذلك بأن اظهر في الجبل من الآيات والعجائب ما دل به على ان المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز ، فان الحكمة تمنع منها ، والوجه الاول اولى لما ذكرناه متقدما من الوجوه ، لان موسى (عليه السلام) لا يخلو من ان يكون شاكا في ان المعرفة الضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو غير شاك ، فإن كان شاكا فالشك فيما يرجع إلى اصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز على الانبياء (عليهم السلام) ، لا سيما وقد يجوز ان يعلم ذلك على حقيقته بعض امتهم فيزيد عليهم في المعرفة ، وهذا ابلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منهم ، وان كان موسى عليه السلام عالما بذلك وغير شاك فيه ، فلا وجه لسؤاله الا ان يقال انه سأل لقومه ، فيعود إلى معنى الجواب الاول. فقد حكي جواب ثالث في هذه الآية عن بعض من تكلم في تأويلها من أهل التوجيه ، وهو انه قال : يجوز ان يكون موسى عليه السلام في وقته مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية عليه تعالى ، فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا ، قال : وليس شكه في ذلك بمانع ان يعرف الله تعالى بصفاته ، بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاعراض في انه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى ، قال ولا يمتنع ان يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لأجله. وهذا الجواب يبعد من جهة ان الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمتنع من معرفته بصفاته ، فإن الشك في ذلك لا يجوز على الانبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه ان يعرف ذلك على حقيقته ، فيكون النبي (عليه السلام) شاكا فيه وامته عارفون به مع رجوعهم في المعارف بالله تعالى ، وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز ، وهذا يزيد في التنفير على كل ما يوجب تنزيه الانبياء عليهم السلام عنه.

فان قيل : فعن أي شئ كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟

قلنا : أما من ذهب إلى ان المسألة كانت لقومه ، فإنه يقول انما تاب لأنه اقدم على ان يسأل عن لسان قومه يؤذن له وليس للأنبياء عليهم السلام ذلك ، لأنه لا يؤمن من ان يكون الصلاح في المنع منه ، فيكون ترك اجابتهم منفرا عنهم. وليس تجري مسألتهم على سبيل الاستسرار ، وبغير حضور قومهم يجري مجرى ما ذكرناه لأنه ليس يجوز ان يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه ، لان منعهم منه لا يقتضي تنفيرا. ومن ذهب إلى انه سأل المعرفة الضرورية يقول انه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وفي الناس من قال انه تاب من حيث ذكر في الحال ذنبا صغيرا مقدما. والذي يجب ان يقال في تلفظه بذكر التوبة انه وقع على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه والتقرب منه وان لم يكن هناك ذنب معروف. وقد يجوز ان يكون ايضا الغرض في ذلك مضافا إلى ما ذكرناه من الاستكانة والخضوع والعبادة وتعليمنا وتفهيمنا على ما نستعمله وندعو به عند نزول الشدائد وظهور الاهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى ، فإن الانبياء (عليهم السلام) وان لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم ، ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه.

بيان الوجه في اخذ موسى برأس اخيه يجره :

(مسألة) : فان قيل : فما وجه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] أو ليس ظاهر هذه الآية يدل على ان هرون عليه السلام أحدث ما اوجب ايقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد فما الاعتذار لموسى (عليه السلام) من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟

(الجواب) قلنا : ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهما السلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما ، وذلك ان موسى (عليه السلام) اقبل وهو غضبان على قومه لما احدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكرا منكرا ما كان منهم ، فأخذ برأس اخيه وجره إليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر. ألا ترى ان المفكر الغضبان قد يعض على شفيته ويفتل اصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى (عليه السلام) اخاه هرون مجرى نفسه ، لانه كان أخاه وشريكه وحريمه ، ومن يمسه من الخير والشر ما يمسه ، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في احوال الفكر والغضب ، وهذه الامور تختل احكامها بالعادات ، فيكون ما هو اكرام في بعضها استخافا في غيرها ، ويكون ما هو استخفاف في موضع اكراما في آخر. وأما قوله : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، فليس يدل على انه وقع على سبيل الاستخفاف ، بل لا يمتنع ان يكون هرون (عليه السلام) خاف من ان يتوهم بنو اسرائيل لسوء ظنهم انه منكر عليه معاتب له ، ثم ابتدأ بشرح قصته فقال في موضع آخر : اني خشيت ان تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي وفي موضع آخر : (ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) إلى آخر الآية ، ويمكن أن يكون قوله : {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي } [طه: 94] ليس على سبيل الامتعاظ والانفة (اي الغيرة) ، لكن معنى كلامه : (لا تغضب ولا يشتد جزعك وأسفك) لانا إذا كنا قد جعلنا فعله ذلك دلالة الغضب والجزع فالنهي عنه في المعنى نهي عنهما. وقال قوم ان موسى عليه السلام لما جرى من قومه من بعده ما جرى اشتد حزنه وجزعه ، ورأى من اخيه هرون عليه السلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق ، أخذ برأسه إليه متوجعا له مسكنا له ، كما يفعل احدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها. وعلى هذا الجواب يكون قوله «لا تشمت بي الاعداء» لا يتعلق بهذا الفعل ، بل يكون كلاما مستأنفا. وأما قوله على هذا الجواب «لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي» ، فيحتمل أن يريد أن لا تفعل ذلك وغرضك التسكين مني فيظن القوم انك منكر علي. وقال قوم في هذه الآية ان بني اسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام ، حتى ان هرون (عليه السلام) كان غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى انت قتلته ، فلما وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة واتمها له بعشر وكتب له في الالواح كل شئ وخصه بأمور شريفة جليلة الخطر بما أراه من الآية في الجبل ومن كلام الله تعالى له وغير ذلك من شريف الامور ، ثم رجع إلى أخيه ، أخذ برأسه ليدنيه إليه ويعلمه ما جدده الله تعالى له من ذلك ويبشره به ، فخاف هرون (عليه السلام) ان يسبق إلى قلوبهم ما لا اصل له ، فقال اشفاقا على موسى عليه السلام : لا تأخذ بلحيتي ، ولا برأسي لتبشرني بما تريده بين ايدي هؤلاء فيظنوا بك ما لا يجوز عليك ولا يليق بك والله تعالى اعلم بمراده من كلامه.

في قدرة موسى على الصبر وتنزيهه عن النسيان :

(مسألة) فان قيل : فما وجه قوله تعالى فيما حكاه عن موسى عليه السلام والعالم الذي كان صحبه وقيل انه الخضر عليه السلام من الآيات التي ابتداؤها : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 65 - 70] إلى آخر الآيات المتضمنة لهذه القصة.

وأول ما تسألون عنه في هذه الآيات ان يقال لكم كيف يجوز ان يتبع موسى عليه السلام غيره ويتعلم منه ، وعندكم ان النبي (عليه السلام) لا يجوز ان يفتقر إلى غيره؟

وكيف يجوز ان يقول له انك لن تستطيع معي صبرا والاستطاعة عندكم هي القدرة وقد كان موسى عل مذهبكم قادرا على الصبر؟

وكيف قال موسى ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك أمرا فاستثنى المشيئة في الصبر واطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته؟

وكيف قال لقد جئت شيئا أمرا وشيئا نكرا وما اتي العالم منكرا في الحقيقة؟

وما معنى قوله لا تؤاخذني بما نسيت وعندكم ان النسيان لا يجوز على الانبياء عليهم السلام؟

ولم نعت موسى (عليه السلام) النفس بأنها زكية ولم تكن كذلك على الحقيقة؟ ولم قال في الغلام : {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] فإن كان الذي خشية الله تعالى على ما ظنه قوم ، فالخشية لا يجوز عليه تعالى؟

وان كان هو الخضر (عليه السلام) فكيف يستبيح دم الغلام لأجل الخشية والخشية لا تقتضي علما ولا يقينا؟

(الجواب) : قلنا : ان العالم الذي نعته الله تعالى في هذه الآيات فلا يجوز إلا أن يكون نبيا فاضلا ، وقد قيل انه الخضر عليه السلام ، وأنكر أبو علي الجبائي ذلك وزعم انه ليس بصحيح قال : لان الخضر (عليه السلام) يقال انه كان نبيا من انبياء بني اسرائيل الذين بعثوا من بعد موسى (عليه السلام) ، وليس يمتنع ان يكون الله تعالى قد اعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسى ، وارشد موسى (عليه السلام) إليه ليتعلم منه ، وانما المنكر ان يحتاج النبي (عليه السلام) في العلم إلى بعض رعيته المبعوث إليهم. فأما ان يفتقر إلى غيره ممن ليس له برعية فجائز ، وما تعلمه من هذا العالم إلا كتعلمه من الملك الذي يهبط عليه بالوحي ، وليس في هذا دلالة على ان ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم ، لانه لا يمتنع ان يزيد موسى في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف مما علمه ، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وان كان ذلك المعلوم يذهب إلى غيره ممن هو افضل منه وأعلم. وأما نفي الاستطاعة فانما أراد بها ان الصبر لا يخف عليك انه يثقل على طبيعتك ، كما يقول أحدنا لغيره : انك لا تستطيع ان تنظر الي. وكما يقال للمريض الذي يجهده الصوم وان كان قادرا عليه : انك لا تستطيع الصيام ولا تطيقه ، وربما عبر بالاستطاعة عن الفعل نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن الحواريين : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } [المائدة: 112] فكأنه على هذا الوجه قال : انك لن تصبر ولن يقع منك الصبر. ولو كان إنما نفى القدرة على ما ظنه الجهال ، لكان العالم وهو في ذلك سواء ، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة ، والذي يدل على انه نفي عنه الصبر لاستطاعته قول موسى (عليه السلام) في جوابه : {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } [الكهف: 69] ولم قل ستجدني ان شاء الله مستطيعا.

ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء ، فدل جوابه على ان الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.

وأما قوله : {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] فهو ايضا مشروط بالمشيئة ، وليس بمطلق على ما ذكر في السؤال ، فكأنه قال ستجدني صابرا ولا اعصي لك امرا ان شاء الله. وانما قدم الشرط على الامرين جميعا وهذا ظاهر في الكلام.

وأما قوله : {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] فقد قيل انه أراد شيئا عجبا ، وقيل أنه أراد شيئا منكرا ، وقيل أن الامر أيضا هو الداهية. فكأنه قال جئت داهية. وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى ان الامر مشتق من الكثرة من أمر القوم إذا كثروا ، وجعل عبارة عما كثر عجبه ، وإذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها ، وان حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله لقد جئت شيئا نكرا واحدا.

وفي ذلك وجوه :

منها : ان ظاهر ما اتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل ان يعرف علته.

ومنها : ان يكون حذف الشرط فكأنه قال ان كنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نكرا.

ومنها : أنه أراد انك أتيت أمرا بديعا غريبا ، فإنهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته أنه نكر ومنكر ، وليس يمكن ان يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع.

ألا ترى إلى قوله : {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] والى قوله : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]. ومعلوم انه ان كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق ، فقد اتى منكرا. وكذلك ان كان قتل النفس على سبيل الظلم. وأما قوله : {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة :

أحدها : انه أراد النسيان المعروف ، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة ، فإن الانسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

والوجه الثاني : انه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] أي ترك ، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن ابي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : «وقال موسى لا تؤاخذني بما نسيت». يقول بما تركت من عهدك.

والوجه الثالث : انه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة كما قال المؤذن لأخوة يوسف عليه السلام : {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] اي انكم تشبهون السراق. وكما يتأول الخبر الذي يرويه ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : « كذب ابراهيم (عليه السلام) ثلاث كذبات في قوله سارة اختي ، وفي قوله بل فعله كبيرهم هذا. وقوله اني سقيم» ، والمراد بذلك ان كان هذا الخبر صحيحا أنه فعل ما ظاهره الكذب. وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها.

وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه ان النبي صلى الله عليه وآله انما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في امر يقتضي التنفير عنه.

فأما فيما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان ، ألا ترى انه إذا نسي أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتصل ، فنسب إلى انه مغفل ، فإن ذلك غير ممتنع ، وأما وصف النفس بأنها زكية فقد قلنا ان ذاك خرج مخرج الاستفهام لا على سبيل الاخبار.

 وإذا كان استفهاما فلا سؤال على هذا الموضع. وقد اختلف المفسرون في هذه النفس ، فقال اكثرهم انه كان صبيا لم يبلغ الحلم ، وأن الخضر وموسى عليهما السلام مرا بغلمان يلعبون ، فأخذ الخضر (عليه السلام) منهم غلاما فاضجعه وذبحه بالسكين.

ومن ذهب إلى هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زكية على انه من الزكاة الذي هو الزيادة والنماء ، لان الطهارة في الدين من قولهم : زكت الارض تزكو إذا زاد ريعها.

وذهب قوم إلى أنه كان رجلا بالغا كافرا ولم يكن يعلم موسى (عليه السلام) باستحقاقه القتل ، فاستفهم عن حاله. ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74] يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام على مذهب العرب وان كان بالغا. فأما قوله : {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] فالظاهر يشهد ان الخشية من العالم لا منه تعالى. والخشية ههنا قيل : العلم.

كما قال الله تعالى : {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وقوله عز وجل : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] وكل ذلك بمعنى العلم.

وعلى هذا الوجه كأنه يقول انني علمت بإعلام الله تعالى لي ان هذا الغلام متى بقى كفر أبويه (كفروا ابواه) ، ومتى قتل بقيا على ايمانهما. فصارت تبقيته مفسدة ووجب احترامه ، ولا فرق بين ان يميته الله تعالى وبين أن يأمر بقتله. وقد قيل ان الخشية هاهنا بمعنى الخوف الذي لا يكون معه يقين ولا قطع. وهذا يطابق جواب من قال ان الغلام كان كافرا مستحقا للقتل بكفره ، وانضاف إلى استحقاقه ذلك بالكفر خشية ادخال ابويه في الكفر وتزيينه (وترديده) لهما. قال قوم ان الخشية ههنا هي الكراهية.

يقول القائل : فرقت بين الرجلين خشية ان يقتتلا ، أي كراهة لذلك ، وعلى هذا التأويل والوجه الذي قلنا أنه بمعنى العلم لا يمتنع ان تضاف الخشية إلى الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل ، وكيف يسمى مالكها بأنه مسكين والمسكين عند قوم شر من الفقير؟ وكيف قال : {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] ومن كان وراءهم قد سلموا من شره ونجوا من مكروهه وانما الحذر مما يستقبل.

قلنا أما قوله : لمساكين ففيه أوجه :

منها أنه لم يعن بوصفهم بالمسكنة الفقر ، وإنما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة. كما يقال لمن له عدو يظلمه ويهضمه انه مسكين ومستضعف وان كان كثير المال واسع الحال. ويجري هذا مجرى ما روي عنه عليه السلام من قوله : «مسكين مسكين رجل لا زوجة له». وانما أراد وصفه بالعجز وقلة الحيلة وان كان ذا مال واسع.

ووجه آخر : وهو ان السفينة الواحدة البحرية التي لا يتعيش الا بها ولا يقدر على التكسب إلا من جهتها كالدار التي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها ، فهو مضطر إليها ومنقطع الحيلة إلا منها. فإذا انضاف إلى ذلك ان يشاركه جماعة في السفينة حتى يكون له منها الجزء اليسير ، كان اسوأ حالا وأظهر فقرا.

ووجه آخر : ان لفظه المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون ، فإذا صحت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال.

فأما قوله تعالى : {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] فهذه اللفظة يعبر بها عن الامام والخلف معا. فهي ها هنا بمعنى الامام. ويشهد بذلك قوله تعالى : {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } [إبراهيم: 16] يعني من قدامه وبين يديه.

وقال الشاعر : ليس على طول الحياة ندم * ومن وراء المرء ما لا يعلم .

وقال الآخر : اليس ورائي ان تراخت منيتي * لزوم العصى تحنى عليها الاصابع.

ولا شبهة في أن المراد بجميع ذلك : القدام. وقال بعض أهل العربية إنما صلح ان يعبر بالوراء عن الامام إذا كان الشئ المخبر عنه بالوراء يعلم انه لابد من بلوغه ثم يسبقه ويخلفه.

فتقول العرب : البرد وراءك وهو يعني قدامك ، لأنه قد علم أنه لابد من ان يبلغ البرد ثم يسبق. ووجه آخر : وهو أنه يجوز ان يريد ان ملكا ظالما كان خلفهم وفي طريقهم عند رجوعهم على

وجه لا انفكاك لهم منه ولا طريق لهم إلا المرور به ، فخرق السفينة حتى لا يأخذها إذا عادوا عليه. ويمكن ان يكون وراءهم على وجه الاتباع والطلب والله اعلم بمراده.

تنزيه موسى عن تبرئته بهتك عورته :

(مسألة) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] أوليس قد روي في الآثار ان بني اسرائيل رموه (عليه السلام) بأنه أدر وبأنه ابرص ، وأنه (عليه السلام) القى ثيابه على صخرة ليغتسل ، فأمر الله تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت وبقي موسى (عليه السلام) مجردا يدور على محافل بني اسرائيل حتى رأوه وعلموا انه لا عاهة به ؟

(الجواب) : قلنا ما روي في هذا المعنى ليس بصحيح وليس يجوز ان يفعل الله تعالى بنبيه عليه السلام ما ذكروه من هتك العورة ليبرئه من عاهة أخرى ، فإنه تعالى قادر على ان ينزهه مما قذفوه به على وجه لا يلحقه معه فضيحة أخرى ، وليس يرمى بذلك انبياء الله تعالى من يعرف اقدارهم. والذي روي في ذلك من الصحيح معروف ، وهو ان بني اسرائيل لما مات هارون عليه السلام قذفوه بأنه قتله لانهم كانوا إلى هرون (عليه السلام) أميل ، فبرأه الله تعالى من ذلك بأن امر الملائكة بأن تحمل هرون (عليه السلام) ميتا ، فمرت به على محافل بني اسرائيل ناطقة بموته ومبرئه لموسى عليه السلام من قتله. وهذا الوجه يروى عن امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وروي ايضا ان موسى (عليه السلام) نادى اخاه هرون فخرج من قبره فسأله هل قتله قال لا؟ ثم عاد إلى قبره. وكل هذا جائز والذي ذكره الجهال غير جائز.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.

قسم الشؤون الفكرية يصدر العدد الثامن والثلاثين من مجلة دراسات استشراقية
مجمع أبي الفضل العباس (عليه السلام) يستقبل الطلبة المشاركين في حفل التخرج المركزي
جامعة الكفيل تحيي ذكرى هدم مراقد أئمة البقيع (عليهم السلام)
الانتهاء من خياطة الأوشحة والأعلام الخاصة بالحفل المركزي لتخرج طلبة الجامعات