المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16464 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
سفينة الإله «آمون» في الكرنك.
2024-05-20
معبد الإلهة موت.
2024-05-20
معبد آخر للإله منتو
2024-05-20
آثار أمنحتب في طيبة الشرقية طريق الكباش.
2024-05-20
قبر أمنحتب في أبواب الملوك.
2024-05-20
آثار أمنحتب في طيبة الشرقية البوابة الثالثة.
2024-05-20

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير آية (20-26) من سورة المائدة  
  
11594   05:49 مساءً   التاريخ: 28-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الميم / سورة المائدة /


قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 20 - 26] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [المائدة : 20-21] .

ذكر سبحانه صنع اليهود في المخالفة لنبيهم ، تسلية لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، ومخالفتهم إياه ، فقال : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي : واذكر يا محمد إذ قال موسى لهم {يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وأياديه لديكم ، وآلاءه فيكم {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} يخبرونكم بأنباء الغيب ، وتنصرون بهم على الأعداء ، ويبينون لكم الشرائع .

وقيل : هم الأنبياء الذين كانوا بعد موسى مقيمين فيهم إلى زمن عيسى ، يبينون لهم أمر دينهم {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} بأن سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم ، عن قتادة .

وقيل : إنما خاطبهم موسى بذلك لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم ، ولهم نساء وأزواج ، وكل من ملك ذلك ، ولا يدخل عليه إلا بأمره ، فهو ملك ، كائنا من كان ، عن عبد الله بن عمر ، وابن العاص ، وزيد بن أسلم ، والحسن . ويؤيد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " من أصبح آمنا في سربه " (2) ، معافى في بدنه ، وعنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " . وقيل : الملك هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال ، وتحمل المشاق ، والتسكع في المعاش ، عن أبي علي الجبائي . وقيل : إنهم جعلوا ملوكا بالمن ، والسلوى ، والحجر ، والغمام ، عن ابن عباس ، ومجاهد . وقيل : لا يمتنع أن يكون الله سبحانه جعل لهم الملك والسلطان ، ووسع عليهم التوسعة التي يكون بها الإنسان ملكا ، عن أبي القاسم البلخي .

{وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} أي : أعطاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم ، عن الحسن ، والبلخي . وقيل : معناه أعطاكم من اجتماع هذه الأمور ، وكثرة الأنبياء عليهم السلام ، والآيات التي جاءتهم ، وإنزال المن والسلوى عليهم ، عن الزجاج ، والجبائي . واختلفوا في المخاطب بقوله : {وَآتَاكُمْ} فقيل : هم قوم موسى عليه السلام ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيره ، وهو الأظهر . وقيل : هم أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، عن سعيد بن جبير ، وأبي مالك .

ثم كلفهم سبحانه دخول الأرض المقدسة بعد ذكر النعم فقال {يَا قَوْمِ} حكاية عن خطاب موسى عليه السلام لقومه {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} وهي بيت المقدس ، عن ابن عباس ، والسدي ، وابن زيد . وقيل : هي دمشق ، وفلسطين ، وبعض الأردن ، عن الزجاج ، والفراء . وقيل : هي الشام ، عن قتادة . وقيل : هي أرض الطور ، وما حوله ، عن مجاهد . والمقدسة : المطهرة ، طهرت من الشرك ، وجعلت مكانا وقرارا للأنبياء والمؤمنين {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي : كتب في اللوح المحفوظ إنها لكم .

وقيل : معناه وهب الله لكم ، عن ابن عباس . وقيل : معناه أمركم الله بدخولها ، عن قتادة ، والسدي .

فإن اعترض معترض فقال : كيف كتب الله لهم مع قوله فإنها محرمة عليهم ؟

فجوابه : إنها كانت هبة من الله لهم ، ثم حرمها عليهم ، عن ابن إسحاق . وقيل :

إن المراد به الخصوص ، وإن كان الكلام على العموم ، فصار كأنه مكتوب لبعضهم ، وحرام على البعض ، والذين كتب الله لهم دخولها ، هم الذين كانوا مع يوشع بن نون ، بعد موت موسى عليه السلام بشهرين {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي : لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها عن أكثر المفسرين . وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته ، عن الجبائي {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} الثواب في الآخرة ، وإنما قال ذلك لأنهم كانوا أمروا بدخولها ، كما أمروا بالصلاة وغيرها ، عن قتادة ، والسدي . وقيل : إنهم لم يؤمروا بذلك ، فيكون المراد فتنقلبوا خاسرين حظكم في دخولها ، كما يقال خسر في البيع فلان .

القصة : قال المفسرون : لما عبر موسى وبنو إسرائيل البحر ، وهلك فرعون ، أمرهم الله سبحانه بدخول الأرض المقدسة ، فلما نزلوا على نهر الأردن ، خافوا من الدخول ، فبعث موسى من كل سبط رجلا ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} فعاينوا من عظم شأنهم وقوتهم ، شيئا عجيبا ، فرجعوا إلى بني إسرائيل ، فأخبروا موسى عليه السلام بذلك ، فأمرهم أن يكتموا ذلك ، فوفى اثنان منهم : يوشع بن نون من سبط بن يامين ، وقيل : إنه كان من سبط يوسف ، وكالب بن يوفنا ، من سبط يهوذا ، وعصى العشرة ، وأخبروا بذلك . وقيل : كتم الخمسة منهم ، وأظهر الباقون ، وفشا الخبر في الناس ، فقالوا : إن دخلنا عليهم ، تكون نساؤنا وأهالينا غنيمة لهم ، وهموا بالانصراف إلى مصر ، وهموا بيوشع وكالب ، وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة ، فاغتاظ لذلك موسى ، وقال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، فأوحى الله إليه : إنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وإنما يخرج منهم من لم يعص الله في ذلك ، فبقوا في التيه أربعين سنة في ستة عشر فرسخا ، وقيل : تسعة فراسخ . وقيل : ستة ، وهم ستمائة ألف مقاتل ، لا تتخرق ثيابهم ، وتثبت معهم ، وينزل عليهم المن والسلوى ، ومات النقباء ، غير يوشع بن نون ، وكالب ، ومات أكثرهم ، ونشأ ذراريهم .

فخرجوا إلى حرب أريحا ، وفتحوها ، واختلفوا فيمن فتحها ، فقيل : فتحها موسى ، ويوشع على مقدمته . وقيل : فتحها يوشع بعد موت موسى عليه السلام ، وكان قد توفي موسى ، وبعثه الله نبيا ، وروي أنهم كانوا في المحاربة إذ غابت الشمس ، فدعا يوشع فرد الله تعالى عليهم الشمس ، حتى فتحوا أريحا . وقيل : كانت وفاة موسى وهارون عليهما السلام في التيه ، وتوفي هارون قبل موسى بسنة ، وكان عمر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة ، في ملك افريدون ، ومنوجهر ، وكان عمر يوشع مائة وستة وعشرين سنة ، وبقي بعد وفاته مدبرا لأمر بني إسرائيل سبعا وعشرين سنة .

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } المائدة : 22-24] .

ثم ذكر جواب القوم فقال سبحانه : {قَالُوا} يعني بني إسرائيل {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا} أي : في الأرض المقدسة {قَوْمًا} أي : جماعة {جَبَّارِينَ} : شديدي البطش والبأس والخلق ، قال ابن عباس : بلغ من جبرية هؤلاء القوم أنه لما بعث موسى عليه السلام من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم ، رآهم رجل من الجبارين يقال له : عوج ، فأخذهم في كمه مع فاكهة كان يحملها من بستانه ، وأتى بهم الملك ، فنثرهم بين يديه ، وقال للملك تعجبا منهم : هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا . قال مجاهد : وكان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال بالخشب ، ويدخل في قشر نصف رمانة خمسة رجال ، وإن موسى عليه السلام كان طوله عشرة أذرع ، وله عصا طولها عشرة أذرع ، ونزا من الأرض مثل ذلك ، فبلغ كعب عوج بن عنق ، فقتله . وقيل : كان طول سريره ثمانمائة ذراع {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} يعني لقتالهم {حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا} يعني : الجبارين {مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} . {قَالَ رَجُلَانِ} : من جملة النقباء الذين بعثهم موسى ليعرف خبر القوم . وقيل : هما يوشع بن نون وكالب (3) بن يوفنا ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والربيع . وقيل : رجلان كانا من مدينة الجبارين ، وكانا على دين موسى لما بلغهما خبر موسى ، جاءاه فاتبعاه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

{مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإسلام ، عن قتادة ، والحسن . وقيل : يخافون الجبارين أي : لم يمنعهم الخوف من الجبارين أن قالوا الحق ، أنعم الله عليهما بالتوفيق للطاعة ، عن الجبائي . وكان سعيد بن جبير يقرأ : {يَخَافُونَ} بضم الياء . وروي تأويل ذلك عن ابن عباس ، أنهما كانا من الجبارين ، أنعم الله عليهما بالإسلام . {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أخبر عن الرجلين أنهما قالا : ادخلوا يا بني إسرائيل على الجبارين باب مدينتهم ، وإنما علما أنهم يظفرون بهم ، ويغلبونهم إذا دخلوا باب مدينتهم ، لما أخبر به موسى عليه السلام من وعد الله تعالى بالنصرة . وقيل : لما رأوه من إلقاء الله الرعب في قلوب الجبارين ، فعلما أنهم إن دخلوا الباب غلبوا {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} في نصرة الله على الجبارين ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالله ، وبما آتاكم به رسوله من عنده .

ثم أخبر عن قوم موسى بأنهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} أي : هذه المدينة {أَبَدًا مَا دَامُوا} أي : ما دام الجبارون {فِيهَا} . وإنما قالوا ذلك لأنهم جبنوا وخافوا من قتالهم ، لعظم أجسامهم ، وشدة بطشهم ، ولم يثقوا بوعد الله سبحانه بالنصرة لهم عليهم {فَاذْهَبْ} يا موسى {أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} الجبارين {إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} إلى أن تظفر بهم ، وترجع إلينا ، فحينئذ ندخل ، وإنما لم ينكر موسى عليهم قولهم : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} لأمرين أحدهما : إن الكلام كله يدل على الإنكار عليهم ، والتعجب من جهلهم في تلقيهم أمر ربهم ، بالرد له ، والمخالفة عليه والآخر : إنهم إنما قالوا ذلك مجازا بمعنى : وربك معين لك على ما قاله أبو القاسم البلخي .

والأول أليق بجهل أولئك القوم . قال الحسن : هذا القول منهم يدل على أنهم كانوا مشبهة ، ولذلك عبدوا العجل ، ولو عرفوا الله تعالى حق معرفته ، لما عبدوا العجل .

وقال الجبائي : إن كانوا قالوا ذلك على وجه الذهاب من مكان إلى مكان ، فإنه كفر ، وإن قالوا على وجه الخلاف ، فإنه فسق . وأما قوله سبحانه : {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فإنه مجاز ، والمعنى : إنه يعاديهم عداوة المقاتل ، ويحل بهم ما يحله المقاتل المستعلي بالاقتدار ، وعظم السلطان ، بمن يقاتله .

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 25 - 26] .

ثم ذكر سبحانه دعاء موسى على قومه ، عند مخالفتهم إياه ، فقال تعالى : {قَالَ} أي : قال موسى عليه السلام إذ غضب على قومه {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي} أي : لا أملك إلا تصريف نفسي في طاعتك ، لأنها التي تجيبني إذا دعوت {وَأَخِي} أي : وأخي كذلك لا يملك إلا نفسه ، أو يكون معناه : ولا أملك أيضا إلا أخي ، لأنه يجيبني إذا دعوت {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي : فافصل بيننا وبينهم بحكمك ، وسماهم فساقا ، وإن كانوا قد كفروا بالرد على نبيهم ، لخروجهم من الإيمان إلى الكفر ، والفسق ، والخروج من الطاعة إلى المعصية ، والكفر من أعظم المعاصي ، قال الله تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وقيل ، في سؤال موسى الفرق بينه وبينهم ، قولان أحدهما : إنه سأل تعالى أن يحكم ويقضي بما يدل على بعدهم عن الحق والصواب فيما ارتكبوا من العصيان ، ولذلك ألقوا في التيه ، عن ابن عباس ، والضحاك والأخر : إنه سأله أن يفرق بينه وبينهم في الآخرة ، بأن يكون هؤلاء في النار ، ويكون هو في الجنة ، ولو دعا عليهم بالهلاك لأهلكوا عن الجبائي {قَالَ} أي : قال الله سبحانه لموسى عليه السلام ، {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي : إن الأرض المقدسة حرمت عليهم ، وفي كيفية التحريم قولان :

أحدهما : إنه تحريم منع ، كقول امرئ القيس :

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري           *        إني امرؤ صرعي عليك حرام

يعني دابته التي هو راكبها ، ويريد بذلك : إني فارس لا تملكين أن تصرعيني .

وقيل : يجوز أن يكون تحريم تعبد ، عن أبي علي الجبائي ، والأول أظهر . وقال البلخي : يجوز أن يكونوا أمروا بأن يطوفوا فيه {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} يعني : يتحيرون في المسافة التي بينهم وبينها ، لا يهتدون إلى الخروج منها ، وكان مقداره ستة فراسخ ، عن الربيع ، كانوا يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا ، عن الحسن ، ومجاهد . وقال أكثر المفسرين : إن موسى وهارون كانا معهم في التيه . وقيل أيضا : إنهما لم يكونا في التيه ، لان التيه عذاب ، وعذبوا عن كل يوم عبدوا فيه العجل سنة ، والأنبياء لا يعذبون .

قال الزجاج : إن كانا في التيه ، فجائز أن يكون الله تعالى سهل عليهما ذلك ، كما سهل على إبراهيم النار ، فجعلها عليه بردا وسلاما ، وشأنها الإحراق ، ومات موسى عليه السلام في التيه ، وفتح المدينة يوشع وصي موسى بعده ، وكان يوشع ابن أخت موسى ، ووصيه ، والنبي في قومه بعده ، عن ابن عباس . وقيل : لم يمت في التيه ، عن الحسن ، ومجاهد ، قالا : وفتح المدينة موسى .

ومتى سئل فقيل : كيف يجوز على عقلاء كثيرين أن يسيروا في فراسخ يسيرة ، فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب عنه من وجهين أحدهما : أن يكون ذلك بأن تحول الأرض التي هم عليها إذا ناموا ، فيردوا إلى المكان الذي ابتدأوا منه ، عن أبي علي .

والآخر : أن يكون ذلك بالأسباب المانعة من الخروج عنها ، إما بأن تمحى العلامات التي يستدل بها ، أو بأن يلقى شبه بعضها على بعض ، ولكون ذلك معجزا خارقا للعادة .

وقال قتادة : لم يدخل بلد الجبارين أحد من القوم ، إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، بعد موت موسى بشهرين ، وإنما دخلها أولادهم معهما {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} خطاب لموسى عليه السلام : أمره الله تعالى أن لا يحزن على إهلاكهم لفسقهم . وقال الزجاج : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .

_____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 307-314 .

2 . أي في نفسه .

3 . [وقيل كلاب] .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

هذه الآيات حلقة من قصة بني إسرائيل التي ذكرها سبحانه متفرقة في العديد من سور القرآن ، وكرر بعض حلقاتها مرات ، وهي - كما ترى - ظاهرة الدلالة ، واضحة المعنى :

{ وإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ } . ذكرهم موسى (عليه السلام) بنعم اللَّه عليهم تمهيدا لما سيأمرهم به من الجهاد ، وعدّ من هذه النعم ثلاثا : الأولى ان اللَّه جعل فيهم أنبياء . الثانية : انه جعلهم ملوكا ، أي مستقلين يحكمون أنفسهم بأنفسهم ، ولا نعمة أعظم من الحرية . الثالثة : انه عاملهم بما لم يعامل به أحدا من الناس ، فأهلك عدوهم من غير جهاد وقتال ، وأنزل عليهم المن والسلوى بلا حرث ولا حصاد ، وأخرج لهم المياه العذبة من الحجر بلا حفر وتنقيب ، وأظل فوقهم الغمام بلا بناء وعناء .

وبهذه النعم الثلاث نجد تفسير الآية 47 من سورة البقرة : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين } . فالتفضيل على أهل زمانهم كان بإرسال الأنبياء منهم ، وباستقلالهم ، وانزال المن والسلوى عليهم ، وما إليه . وبتعبير ثان ان التفضيل لم يكن بالأخلاق والمناقب ، بل بكيفية المعاملة معهم .

{ يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ } - أي وعد - { اللَّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ } . بعد أن ذكرهم موسى بنعم اللَّه عليهم أمرهم بغزو فلسطين ، وكان فيها الحيثيون والكنعانيون ، وأمرهم بالصبر والثبات في القتال ، وكان اللَّه قد وعدهم السكنى بها في ذلك العهد . فقول موسى : « كتب اللَّه لكم » إشارة إلى هذا الوعد ، وليس معناه ان فلسطين ملك طلق لهم ، كما يزعم اليهود .

ولكن قوم موسى قالوا له جبنا وضعفا : { يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ } . فهم يريدون نصرا رخيصا ومريحا ، لا يكلفهم قتيلا ولا جريحا ، تماما كإغراق عدوهم فرعون . . . ولكن رجلين صالحين منهم قاما فيهم مرشدين يحثانهم على السمع والطاعة للَّه ولرسوله ، وإليهما أشار سبحانه بقوله :

{ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } - أي بالإيمان - { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .

أي اغزوا القوم في عقر دارهم ، فيذلوا وينكسروا ، على أن تكونوا متوكلين حقا على اللَّه ، كما هو شأن المؤمنين المخلصين . ولكنهم عادوا إلى جبلتهم من العناد والتمرد والقحة والصلافة .

و { قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ } . أ رأيت إلى هذه الجرأة على اللَّه ورسوله ؟ . . إلى هذه الوقاحة والصلافة : « اذهب أنت وربك » . . انه ربهم إذا خدم مصالحهم الشخصية ، ولم يكلفهم بما يزعجهم ، وقتل أعداءهم . . وهم ( قاعدون ) سالمون آمنون ، أما إذا انزعج خاطرهم بأدنى تكليف فهو رب موسى ، وليس بربهم . . ومعنى هذا في واقعه ان أهواءهم وشهواتهم وحدها هي ربهم وإلههم الذي يستحق منهم العبادة والتقديس بحمده .

والحق ان هذه الظاهرة لا تخص اليهود وحدهم ، بل تشمل كل من عبد اللَّه على حرف . . وما أكثرهم في المسلمين والنصارى .

{ قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وأَخِي } . هذا التوجه من موسى إلى ربه يشعر بالشكوى من غربته بين قومه بعد الجهد الجهيد ، والعناء الطويل من أجلهم . . { إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وأَخِي } ولا ملك ولا أمر لمن لا يطاع : { فَافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } . لم يجد موسى بدا من الطلب إليه تعالى ان يفصل ويباعد بينه وبين قومه بعد نكولهم عن عهد اللَّه وميثاقه .

{ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } . هذا هو جزاؤهم : التيه في صحراء سيناء الجرداء ، يسيرون فيها لا يهتدون إلى طريق الخروج ، ولا يدرون أين المصير . . وهكذا يضربون في مجاهلها أربعين عاما ، حتى يفنى كبراؤهم ، وينشأ بعدهم جيل جديد .

________________________

1. تفسير الكاشف , ج3 ، ص 42-44 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

الآيات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم وهو الميثاق بالسمع والطاعة لموسى ، وتجبيههم موسى عليه ‌السلام بالرد الصريح لما دعاهم إليه وابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه وهو عذاب إلهي .

وفي بعض الأخبار ما يشعر أن هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة ، على ما ستجيء الإشارة إليها في البحث الروائي التالي إن شاء الله .

قوله تعالى : { وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ } ( إلى آخر الآية ) الآيات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة ـ دعوة موسى إياهم إلى دخول الأرض المقدسة ـ إنما كانت بعد خروجهم من مصر ، كما أن قوله في هذه الآية : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } يدل على ذلك أيضا .

ويدل قوله : { وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ } على سبق عدة من الآيات النازلة عليهم كالمن والسلوى وانفجار العيون من الحجارة وإضلال الغمام .

ويدل قوله : { الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } المتكرر مرتين على تحقق المخالفة ومعصية الرسول منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق .

فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعني قصة التيه في الشطر الأخير من زمان مكث موسى عليه ‌السلام فيهم بعد أن بعثه الله تعالى إليهم وأن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم إنما وقعت قبل ذلك .

فقول موسى لهم : { اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ } أريد به مجموع النعم التي أنعم الله بها عليهم ، وحباهم بها وإنما بدأ بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الأرض المقدسة فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة واستتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم ببعثة موسى وهذا يتهم إلى دينه ، ونجاتهم من آل فرعون ، وإنزال التوراة ، وتشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون والسؤدد .

وقد قسم النعمة التي ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ } وهم الأنبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من الأنبياء ، أو خصوص الأنبياء من بني إسرائيل كيوسف أو الأسباط وموسى وهارون ، والنبوة نعمة أخرى .

ثم قال : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة وتحكم الجبابرة ، وليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه وأهله وماله ، وقد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهي سنة التوحيد التي تأمرهم بطاعة الله ورسوله ، والعدل التام في مجتمعهم ، وعدم الاعتداء على غيرهم من الأمم من غير أن يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به أمر المجتمع ، وما عليهم إلا موسى وهو نبي غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلي عليهم بغير الحق .

وقيل : المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم ، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر فيهم إلا بعد موسى بزمان . وهذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } ولم يقل : وجعل منكم ملوكا ، كما قال : { جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ } .

ويمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة الشيخوخة ، ويكون على هذا موسى عليه ‌السلام ملكا وبعده يوشع النبي وقد كان يوسف ملكا من قبل ، وينتهي إلى الملوك المعروفين طالوت وداود وسليمان وغيرهم . هذا ، ويرد على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه .

ثم قال : { وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ } وهي العنايات والألطاف الإلهية التي اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا ، وداموا على ما واثقوا ، وهي الآيات البينات التي أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر ، وبعد إذ نجاهم الله من فرعون وقومه ، فلم يتوافر ويتواتر من الآيات المعجزات والبراهين الساطعات والنعم التي يتنعم بها في الحياة على أمة من الأمم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت وتواترت على بني إسرائيل .

وعلى هذا فلا وجه لقول بعضهم : إن المراد بالعالمين عالمو زمانهم وذلك أن الآية تنفي أن يكون أمة من الأمم إلى ذلك الوقت أوتيت من النعم ما أوتي بنو إسرائيل ، وهو كذلك .

قوله تعالى : { يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ } أمرهم بدخول الأرض المقدسة ، وكان يستنبط من حالهم التمرد والتأبي عن القبول ، ولذلك أكد أمره بالنهي عن الارتداد وذكر استتباعه الخسران . والدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه إياهم بالفاسقين بعد ردهم ، فإن الرد وهو فسق واحد لا يصحح إطلاق { الْفاسِقِينَ } عليهم الدال على نوع من الاستمرار والتكرر .

وقد وصف الأرض بالمقدسة ، وقد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الأنبياء والمؤمنين فيها ، ولم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة . والذي يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى : { إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ } : ( إسراء : 1 ) وقوله : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها } : ( الأعراف : 137 ) وليست المباركة في الأرض إلا جعل الخير الكثير فيها ، ومن الخير الكثير إقامة الدين وإذهاب قذارة الشرك .

وقوله : { كَتَبَ اللهُ لَكُمْ } ظاهر الآيات أن المراد به قضاء توطنهم فيها ، ولا ينافيه قوله في آخرها : { فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } بل يؤكده فإن قوله : { كَتَبَ اللهُ لَكُمْ } كلام مجمل أبهم فيه ذكر الوقت وحتى الأشخاص ، فإن الخطاب للأمة من غير تعرض لحال الأفراد والأشخاص ، كما قيل : إن السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين به ماتوا وفنوا عن آخرهم في التيه ، ولم يدخل الأرض المقدسة إلا أبناؤهم وأبناء أبنائهم مع يوشع بن نون ، وبالجملة لا يخلو قوله : { فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } عن إشعار بأنها مكتوبة لهم بعد ذلك .

وهذه الكتابة هي التي يدل عليها قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } : ( القصص : 6 ) وقد كان موسى عليه ‌السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله والصبر حيث يقول : { قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } : ( الأعراف : 129 ) .

وهذا هو الذي يخبر تعالى عن إنجازه بقوله : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا } : ( الأعراف : 137 ) فدلت الآية على أن استيلاءهم على الأرض المقدسة وتوطنهم فيها كانت كلمة إلهية وكتابا وقضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة وعن المعصية ، وفي مر الحوادث .

وإنما عممنا الصبر لمكان إطلاق الآية ، ولأن الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم أيام موسى ومعها الأوامر والنواهي الإلهية ، وكلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم .

وهذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الأرض المقدسة لهم ، والآيات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة ومقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الإسراء : { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً } : ( إسراء : 8 ) وكذا قول موسى لهم في ذيل الآية السابقة : { عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } : ( الأعراف : 129 ) وقوله أيضا : { وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ } ـ إلى أن قال ـ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ } ( إبراهيم : 7 ) وما يناظرها من الآيات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير والتبدل .

وقد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكي قوله في الآية : { كَتَبَ اللهُ لَكُمْ } ما وعد الله إبراهيم عليه ‌السلام ، ثم ذكر ما في التوراة (2) من وعد الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطي الأرض لنسلهم ، وأطال البحث في ذلك .

ولا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الأصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة .

قوله تعالى : { قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ } قال الراغب : أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر يقال : جبرته فانجبر واجتبر . قال : وقد يقال الجبر تارة في الإصلاح المجرد نحو قول علي رضي الله عنه : يا جابر كل كسير ويا مسهل كل عسير ، ومنه قولهم للخبز : جابر بن حبة ، وتارة في القهر المجرد نحو قوله عليه ‌السلام : لا جبر ولا تفويض ، قال : والإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الآخر لكن تعورف في الإكراه المجرد فقيل : أجبرته على كذا كقولك : أكرهته . قال : والجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز وجل : { وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } وقوله تعالى . { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا } وقوله عز وجل : { إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ } قال : ولتصور القهر بالعلو على الأقران قيل : نخلة جبارة وناقة جبارة انتهى موضع الحاجة .

فظهر أن المراد بالجبارين هم أولو السطوة والقوة من الذين يجبرون الناس على ما يريدون .

وقوله : { وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها } اشتراط منهم خروج القوم الجبارين في دخول الأرض ، وحقيقته الرد لأمر موسى وإن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم : { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ } .

وقد ورد في عدة من الأخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة وعظم أجسامهم وطول قامتهم أمور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها ، ولا يوجد في الآثار الأرضية والأبحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة .

قوله تعالى : { قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا } ( إلى آخر الآية ) ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه وأن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره وأمر نبيه ، ومنهم هذان الرجلان اللذان قالا ، ما قالا وأنهما كانا يختصان من بين أولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما ، وقد مر في موارد تقدمت من الكتاب أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الإلهية فهما كانا من أولياء الله تعالى ، وهذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } : ( يونس : 62 ) .

ويمكن أن يكون متعلق { أَنْعَمَ } المحذوف أعني المنعم به هو الخوف ، فيكون المراد أن الله أنعم عليهما بمخافته ، ويكون حذف مفعول { يَخافُونَ } للاكتفاء بذكره في قوله : { أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا } إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من أولئك القوم الجبارين وإلا لم يدعو بني إسرائيل إلى الدخول بقولهما : { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ } .

وذكر بعض المفسرين : أن ضمير الجمع في { يَخافُونَ } عائد إلى بني إسرائيل والضمير العائد إلى الموصول محذوف ، والمعنى : وقال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالإسلام ، وأيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة { يَخافُونَ } بضم الياء قالوا .

وذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى ، ولحقا بني إسرائيل ثم قالا لبني إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة والاستيلاء على بلادهم وأرضهم .

وكان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الأخبار الواردة في تفسير الآيات لكنه من الآحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب وغيره .

وقوله : { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ } لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلي بني إسرائيل ، وقد كان على ما يقال : أريحا ، وهذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة .

وقوله : { فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ } وعد منهما لهم بالفتح والظفر على العدو ، وإنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى عليه ‌السلام أن الله كتب لهم تلك الأرض لإيمانهما بصدق إخباره ، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الإلهية . وقد ذكر المعظم من مفسري الفريقين : أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر .

ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما : { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } لأن الله سبحانه كافي من توكل عليه وفيه تطييب لنفوسهم وتشجيع لهم .

قوله تعالى : { قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها } (الآية) تكرارهم قولهم : { إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها } ثانيا لإيئاس موسى عليه ‌السلام من أن يصر على دعوته فيعود إلى الدعوة بعد الدعوة .

وفي الكلام وجوه من الإهانة والإزراء والتهكم بمقام موسى وما ذكرهم به من أمر ربهم ووعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا ، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسى عليه ‌السلام أولا ، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب والخصوصيات في بادئ كلامهم ، وفي الإيجاز بعد الإطناب في مقام التخاصم والتجاوب دلالة على استملال الكلام وكراهة استماع الحديث أن يمضي عليه المتخاصم الآخر . ثم أكدوا قولهم : { لَنْ نَدْخُلَها } ثانيا بقولهم : { أَبَداً } ثم جرأهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كله ، وهو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ } .

وفي الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين ، وهو كذلك فإنهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله : { وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ( الأعراف : 138 ) ولم يزالوا على التجسيم والتشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم الدائرة بينهم .

قوله تعالى : { قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } السياق يدل على أن قوله : { إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } كناية عن نفي القدرة على حمل غير نفسه وأخيه على ما أتاهم به من الدعوة . فإنه إنما كان في مقدرته حمل نفسه على إمضاء ما دعا إليه وحمل أخيه هارون وقد كان نبيا مرسلا وخليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر الله سبحانه . أو إن المراد أنه ليس له قدرة إلا على نفسه ولا لأخيه قدرة إلا كذلك .

وليس مراده نفي مطلق القدرة حتى من حيث إجابة المسئول لإيمان ونحوه حتى ينافي ظاهر سياق الآية أن الرجلين من الذين يخافون وآخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله وأهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا ليتخلفوا عن أوامره .

وذلك أن المقام لا يقتضي إلا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ وأعذر فرد عليه المجتمع الإسرائيلي دعوته أشنع رد وأقبحه ، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول : رب إني أبلغت وأعذرت ولا أملك في إقامة أمرك إلا نفسي وكذلك أخي ، وقد قمنا بما علينا من واجب التكليف ولكن القوم واجهونا بأشد الامتناع ، ونحن الآن آيسان منهم ، والسبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة ومهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة وإيراثهم الأرض واستخلافهم فيها ، واحكم وافصل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين .

وهذا المورد على خلاف جميع الموارد التي عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية وعبادة العجل ودخول الباب وقول حطة وغيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الإسرائيلي لأمره من غير أي رفق وملاءمة ، ولو تركهم موسى على حالهم ، وأغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها ، ولم يتمش له بعد ذلك أمر ولا نهي وتلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة .

ويتبين بهذا البيان أولا : أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى عليه ‌السلام في شكواه إلى ربه لحال نفسه وأخيه ، وهما المبلغان عن الله تعالى ، ولا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين وإن كانوا غير متمردين . إذ لا شأن لهم في التبليغ والدعوة ، والمقام إنما يقتضي التعرض لحال مبلغ الحكم لا العامل الآخذ به المستجيب له .

وثانيا : أن المقام كان يقتضي رجوع موسى عليه ‌السلام إلى ربه بالشكوى وهو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الأمر الإلهي .

وثالثا : أن قوله : { وَأَخِي } معطوف على الياء في قوله : { إِنِّي } والمعنى : وأخي مثلي لا يملك إلا نفسه لا على قوله : { نَفْسِي } فإنه خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان المعنى صحيحا على جميع التقادير فإن موسى وهارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة والامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته ، وكذا كانا يملكان ممن أخلص لله من المؤمنين السمع والطاعة .

ورابعا : أن قوله : { فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } ليس دعاء منه على بني إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما وبينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفيهما فإنه عليه ‌السلام كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة ، وكان هو الذي كتب الله المن على بني إسرائيل بإنجائهم واستخلافهم في الأرض بيده كما قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ } : ( القصص : 5 ) .

وكان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله : { قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا } الآية : ( الأعراف : 129 ) .

ويشهد بذلك أيضا قوله تعالى : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } فإنه يكشف عن أن موسى عليه ‌السلام كان يشفق عليهم من نزول السخط الإلهي ، وكان من المترقب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم .

قوله تعالى : { قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ } الضمير في قوله : { فَإِنَّها } راجعة إلى الأرض المقدسة ، والمراد بالتحريم التحريم التكويني وهو القضاء ، والتيه التحير ، واللام في { الْأَرْضِ } للعهد ، وقوله { فَلا تَأْسَ } نهي من الأسى وهو الحزن ، وقد أمضى الله تعالى قول موسى عليه ‌السلام حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين .

والمعنى : أن الأرض المقدسة أي دخولها وتملكها محرمة عليهم ، أي قضينا أن لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الأرض متحيرين لا هم مدنيون يستريحون إلى بلد من البلاد ، ولا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل والبدويين ، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لأنهم فاسقون لا ينبغي أن يحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 245-252 .

2. كما في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب : « وقال لنسلك أعطي هذه الأرض » 12 : 7 وفيه أيضا : « في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات » 15 : 18 وفي سفر تثنية الاشتراع : « الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا : كفاكم قعودا في هذا الجبل ، تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات . انظروا قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم » 1 ـ 8 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

بنو إسرائيل والأرض المقدسة :

جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلا ، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي ارتكبوها ثانيا ، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي أخطائهم والتعويض عنها ، ويذكرهم القرآن في الآية الأولى بما قاله النّبي موسى عليه ‌السلام لأصحابه حيث تقول : {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ . . .} .

ولا يخفى أنّ عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإلهية ، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثا من أهم هذه النعم ، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود ، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم ، فتقول الآية : {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ . . .} .وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّا ، وإنّ السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسى عليه ‌السلام إلى جبل «الطور» كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء .

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث ، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل .

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول : {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا . . .) وتعتبر هذه النعمة ـ أيضا ـ مقدمة للنعم المعنوية ، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني ، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة ، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود ، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمران عليه ‌السلام وملكهم مصائرهم ومقدراتهم .

وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة «الملوك» الواردة في الآية هم المملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إسرائيل ، في حين أنّ المعروف هو أنّ بني إسرائيل لم يحكموا إلّا فترة قصيرة ، فلم يحظ منهم إلّا القليل بمنزلة الملوكية ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تقول : {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً}وهذه إشارة إلى تمتع جميع بني إسرائيل بهذه المنزلة ، ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة «ملوك» الواردة في الآية أن بني إسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدارتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني .

إضافة إلى ذلك فإنّ كلمة «ملك» في اللغة لها معان عديدة منها «السلطان» ومنها «المالك لزمان الأمور» ومنها ـ أيضا ـ المالك لرقبة شيء معين (2) .

ونقل في تفسير «الدر المنثور» عن النّبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم حديثا جاء فيه : «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا . . .» .

وتشير هذه الآية في أخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعما لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول : {وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع ، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة ، وانفلاق البحر لهم ، ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى» ، وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا ، لدي تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة .

والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة نقلا عن لسان نبيّهم موسى عليه ‌السلام فتقول : {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} .

وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة (الأرض المقدسة) الواردة في الآية ، وحول موقعها الجغرافي من العالم .

فيرى البعض أنّها أرض «بيت المقدس» حيث القدس الشريف ، وآخرون يرون أنّها «أرض الشام» وفئة ثالثة ترى أنّها «الأردن وفلسطين» وجماعة أخرى تقول أنّها أرض «الطور» .

ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة ، لأنّ هذه الأرض ـ كما يشهد التاريخ ـ تعتبر مهدا للأنبياء ، ومهبطا للوحي ، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى ، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزا للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد ، ونشر تعاليم الأنبياء . . . لهذه الأسباب كلها سمّيت بـ «الأرض المقدسة» مع أنّ هذا الاسم يطلق عن منطقة «بيت المقدس» بصورة خاصّة أحيانا (وقد بينا هذا الأمر في الجزء الأوّل من كتابنا هذا) .

ويستدل من جملة {كَتَبَ اللهُ لَكُمْ . . .} إنّ الله قد قرر أن يعيش بنو إسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد .

وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ تناقض بين فشل جيل من بني إسرائيل الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة ، وابتلائهم بالتيه والضياع لمدة أربعين عاما في الصحارى والقفار ، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم بدخول تلك الأرض ، لا يوجد أيّ تناقض بين ما ذكر وبين جملة كتب الله عليكم . . . لأنّ هذا التقدير الإلهي والقرار الرباني إنّما قيد بشروط لم ينفذها ذلك الجيل الأوّل من بني إسرائيل ، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية .

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسى عليه ‌السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء ، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال ، وردّ هؤلاء على طلب موسى عليه ‌السلام بقولهم كما تنقله الآية : {قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ} (3) {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ} .

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإنّ في كلمة «لن» التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الامتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها .

وكان على بني إسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم ، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإلهية الطبيعية ، فإن بني إسرائيل بدخولهم إليها ـ في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة ـ كانوا سيواجهون العجز في إدارة تلك الأرض الواسعة الغنية ، ولم يكونوا ليبدوا أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة ، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك .

أمّا المراد من عبارة {قَوْماً جَبَّارِينَ} فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة» (4) لذين كانوا يمتلكون أجساما ضخمة ، وكانت لهم أطوال خارقة ، بحيث ذهب الكثير إلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير الخرافية من ذلك ، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي ، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ «عوج» في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير .

ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إلى بعض الكتب الإسلامية ، وإنّما هي من صنع بني إسرائيل ، والتي تسمّى عادة بـ «الإسرائيليات» والدليل على هذا القول هو ما ورد نصا في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة ، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر «إن الأرض التي ذهب بنو إسرائيل إليها لاستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإن جميع من فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء «عناق» بشكل كان بنو إسرائيل الذين ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياسا بأحجام العمالقة الموجودين في تلك الأرض!» .

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة ، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسى عليه ‌السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما : ادخلوا عليهم من باب المدينة ، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الإمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون ، تقول الآية الكريمة في هذا المجال : {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ} .

وتؤكد الآية ـ بعد ذلك على ضرورة الاعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات ، والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى : {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل ، كما ورد سابقا (5) .

مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة {مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ} إلّا أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة ، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره ، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا . . .} فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإنسان من الله وحده ولا يخشى أحدا سواه .

وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين ، وكيف أنّهما علما أن بني إسرائيل ستكون لهم الغلبة إن هم دخلوا المدينة ـ أو الأرض المقدسة ـ في هجوم مباغت؟

وجوابه : لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعا من ثقتهما بأقوال النّبي موسى عليه ‌السلام أو أنّهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب ، مفادها أن الجماعة المهاجمة إن استطاعت الوصول إلى مقر ومركز العدو ـ أي تمكنت من محاربة العدو في داره ـ فإنها سننتصر عليه (6) عادة .

والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم المعالقة ، وهم بسبب ما كانوا عليه من طول خارق ، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في مدينة ، فيها ـ بحسب العادة ـ الأزقة والطرق الملتوبة (بغضّ النظر عن الجوانب الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة) ، أضف إلى ذلك كله أنّ العمالقة ـ كما نقل ـ كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناسا جبناء رعاديد ، يرهبهم كل هجوم مباغت ، وكل هذه الأسباب أصبحت دليلا قويا لدى الرجلين المذكورين ليقولا بحتمية انتصار بني إسرائيل .

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الاقتراحات المذكورة ، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى عليه ‌السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض ما دام العمالقة موجودين فيها ، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن انتصاره حيث هم قاعدون ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : {قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} .

وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إليها بنو إسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى عليه ‌السلام ، فهم بقولهم «لن» و «أبدا» أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض المقدسة ، كما أنّهم استخفوا بموسى عليه ‌السلام ودعوته واستهزئوا بهما ، بقولهم : {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ . . .}كما أنّهم ـ أيضا ـ لم يعيروا التفاتا لاقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية ، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب .

والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة ، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد ، حيث جاء فيها أن جميع بني إسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعا : ليتنا متنا جميعا في أرض مصر أو في الفلاة ، فلما ذا جاء بنا الرّب إلى هذه الأرض لكي نقتل بحدّ السيف ، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا . . . فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم ، ما ذا يفعلان؟ أمّا يوشع بن نون وكاليب بن يفنة ، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما . . . ثمّ نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم ، ورفع يديه للدعاء مناجيا ربّه قائلا : إنّه لا يملك حرية التصرف إلّا على نفسه وأخيه ، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة ، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال : {قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} .

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر ، وما استخدام القرآن لعبارة «الفاسق» بحق هؤلاء إلا لأن كلمة «الفسق» لها معان واسعة ، وتشمل كل خروج وانحراف عن سنة العبودية لله ، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم ـ حين التحدث عن انحراف الشيطان ـ قول الله تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . .} [الكهف : 50] .

وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ جملة : {مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ . . .} الواردة في الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله ، ومنهم الرجلان المذكوران في إحدى الآيات الأخيرة وهما «يوشع» و «كاليب» بينما نلاحظ أن موسى عليه ‌السلام لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه ، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحدا من تلك القلّة ، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسى عليه ‌السلام ولكونه أبرز شخصية في بني إسرائيل من بعد موسى عليه ‌السلام . . . لذلك ذكر اسمه دون غيره .

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم ، إذ استجاب الله دعاء نبيه موسى عليه ‌السلام ، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة ، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاما ، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة : {قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً . . .} .

وزادهم عذابا إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة ، حيث تقول الآية في ذلك : {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ . . .} وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إسرائيل باسم «التيه» أيضا ، وكانت جزءا من صحراء سيناء ، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا .

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدة ، كان مناسبا لما فعلوه ، وتطلب من موسى عليه ‌السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة : {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} .

وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة ، هو أنّ موسى عليه ‌السلام قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إسرائيل ، فطلب من الله العفو لقومه ـ كما ورد في التوراة المتداولة ـ فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إسرائيل يستحقون ذلك العذاب ، وهم لا يستحقون العفو الإلهي لأنّهم أناس فاسقون وعصاة ، متكبرون ، ومن كان هذا شأنه سيلاقي ـ حتما ـ مثل هذا المصير .

ويجب الانتباه إلى أنّ حرمان بني إسرائيل من الدخول إلى الأرض المقدسة ، لم يكن له طابع للانتقام (كما أن جميع العقوبات الإلهية ليس فيها طابع انتقامي ، بل هي إما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد ، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه .

وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة ، حيث تحرر بنو إسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص ، لذلك فهم لم يبدوا استعدادا لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسى عليه ‌السلام كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد ، وجوابهم لموسى عليه ‌السلام ـ الذي اشتمل على رفضهم الدخول إلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة ـ خير دليل على هذه الحقيقة .

لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إسرائيل من التيه والضياع في الصحراء ، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء ، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإلهية ، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية ، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة ، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة !

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 476-484 .

2. نقرأ في كتب أن الملك هو «من كان له الملك ، والملك هو ما يملكه الإنسان ويتصرف به ـ أو ـ العظمة والسلطة» .

3. يجب الانتباه إلى أنّ كلمة «جبار» مأخوذة أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إصلاح الشيء بالقسر والإرغام ، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيرا) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح ، ومن جهة أخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري ، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شيء ، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح .

4. العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء ، وقد هاجموا معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي ٥٠٠ عام منذ عام ٢٢١٣ قبل الميلاد حتى عام ١٧٠٣ قبل الميلاد .

عن دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج ٦٠ ، ص ٢٣٢ (الطبعة الثّالثة) .

5. الباب الأوّل من سفر التثنية في التوراة المتداولية ، فيه إشارة إلى أنّ اسمي هذين الرجلين هما «يوشع» و «كاليب» .

6. وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب في إحدى خطبه الواردة في كتاب نهج البلاغة التي هذه الحقيقة بقوله عليه ‌السلام : (فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) (الخطبة ٢٧) .

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



شعبة مدارس الكفيل النسوية تطلق فعّاليات مخيم (بنات العقيدة) العشرين
قسم التربية والتعليم يعقد اجتماعاً تحضيرياً لملاكاته استعداداً لانطلاق برنامجه التأهيلي
متحف الكفيل يعقد أولى اجتماعاته التحضيرية لمؤتمره الدوليّ الخامس
وفد قسم الشؤون الفكرية وسفير العراق في فرنسا يبحثان سبل تعزيز التعاون المشترك