المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4512 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تعريف بعدد من الكتب / العلل للفضل بن شاذان.
2024-04-25
تعريف بعدد من الكتب / رجال النجاشي.
2024-04-25
أضواء على دعاء اليوم الثالث عشر.
2024-04-25
أضواء على دعاء اليوم الثاني عشر.
2024-04-25
أضواء على دعاء اليوم الحادي عشر.
2024-04-25
التفريخ في السمان
2024-04-25

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الله تعالى لا يعلم الجزئيات المتشكّلة والمتغيّرة  
  
5113   09:40 صباحاً   التاريخ: 15-11-2016
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص248.ج2
القسم : العقائد الاسلامية / شبهات و ردود / التوحيـــــــد /

[نص الشبهة وجوابها]

احتج هؤلاء على القول بعدم علمه بالجزئيات المتشكّلة ـ : بأنّ ادراكها انّما يكون بآلات جسمانية والباري ـ تعالى ـ منزّه عنها؛ وعلى القول بعدم علمه بالجزئيات المتغيّرة ـ : بأنّه إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن ثمّ خرج عنها فامّا أن يبقى ذلك العلم بحاله أو يزول ذلك العلم ويعلم انّه ليس في الدار ؛ والأوّل يوجب الجهل ، والثاني يوجب التغير في ذاته من صفة إلى أخرى ، وكلاهما نقص يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه.

قيل : هذا الدليل يتناول الجزئيات المتغيّرة سواء كانت مادّية ـ أي : حالّة في المادّة ـ أو غير مادّية ـ أي : غير حالّة فيها وإن كان لها نوع تعلّق بها ، كالنفس الناطقة وعلومها ـ ، وسواء كانت موجودات عينية أو صورا ادراكية محسوسة أو معقولة ، لا جراء الدليل المذكور في كلّ منها. بل هذا الدليل يجري في المتغيّرات سواء كانت جزئية أو صورا ادراكية كلّية ، فلا يخصّ بالجزئيات.

وأورد عليه : بأنّ مناط اجراء الدليل هو كون الشيء موضوعا للتغير والجزئيات الغير المادية ـ كالنفوس الناطقة والصور المعقولة من حيث هي معقولة ـ وكذا الكلّيات ليست موضوعة للتغير ، لما اشتهر بينهم من أنّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا والمتغيّرات لا تكون إلاّ المادّيات.

واجيب عنه : بأنّه لا ريب في أنّ الصور الحالّة الكلّية في النفس لا تكون مادّية ، لأنّ الصور المادية لا تحلّ في المجرد ـ كما هو المقرّر المشهور عندهم ـ ، بل هي إنّما تحلّ في قوى النفس الّتي هي أيضا مادّية. ولكن الصور الكلّية الحالّة في النفس لها اعتباران :

أحدهما : من حيث انّها حالّة في النفس ، وبهذا الاعتبار تكون جزئية ؛ وثانيهما : أن توجد من حيث هي هي من غير اعتبار حلولها في النفس. وهي بهذا الاعتبار تكون كلّية وكلّيتها ليست إلاّ بهذا الاعتبار.

وإذا عرفت ذلك فنقول : انّ الصور الكلّية الحالّة في النفس إذا اخذت بالاعتبار الأوّل تكون جزئية غير مادّية ، وهو ظاهر ؛ وتكون متغيرة أيضا ، لأنّ حصولها متجدّد للنفس ، لانّ النفس قد تذهل عنها أو تزول تلك الصورة عنها كما في صورة نسيانها متجدّدا غير مادّي يكون متغيّرا ، والدليل المذكور كما يجري في المادّيات الجزئية المتغيّرة يجري في الجزئيات الغير المادّية المتغيّرة أيضا ؛ بيان ذلك : إنّ قبل حصول الصورة المعقولة للنفس كان الواجب ـ تعالى ـ عالما بأنّه ليس تلك الصورة الحاصلة لها ، فبعد حصولها لا يخلو : إمّا أن يزول ذلك العلم ، أم لا ؛ والأوّل يوجب التغير ، والثاني يوجب الجهل ؛ وكلاهما محال.

وبما ذكر يظهر انّ ذات النفس أيضا متغيرة ، إذ حصولها للبدن وتعلّقها به متجدّد فيجري فيها الدليل المذكور بعين ما ذكر ، فثبت انّ الجزئيات الغير المادّية ـ كالنفوس والصور المعقولة والصور الكلّية أيضا ـ متغيرة. فمرادهم من غير المادّيات فيما اشتهر بينهم من « انّ غير المادّيات لا يكون إلاّ ثابتا محضا » هو المجرد ذاتا وفعلا ـ أعني : العقول وصفاتها ـ. وأمّا النفوس فلمّا كانت لها تعلّق بالمادّة فيكون لها ولصفاتها شوب مادية ، فتكون متغيرة. بل الحقّ انّ الدليل المذكور يجري في صفات القول أيضا ـ بناء على حدوث العالم ـ ؛ بل يجري في كلّ حادث سواء كان مادّيا أو مجردا ذاتا أو صفة ، لانّ موضوع التغير هو كون الشيء حادثا وإن لم يكن ماديا أصلا ، وتقرير الاجزاء كما أوضحناه ؛ انتهى.

والتحقيق انّ موضوع التغيّر هو كلّ ما يكون زمانيا يقع تحت الزمان ، وأمّا المتعالي عن الزمان ـ كالمجرّد الصرف ـ فلا يكون متغيرا ، ومجرّد الحدوث بعد العدم وإن استلزم نوع تغيّر إلاّ انّه ليس تغيرا مطلوبا هنا ؛ كما لا يخفى.

وإذ ثبت ذلك فنرجع إلى ما يتعلّق بالدليل المذكور ، فنقول : قال العلاّمة الخفري معترضا على الدليل المذكور : انّ زوال ذلك العلم ـ أي : العلم بأنّ زيدا كان في الدار الآن ـ إمّا بأن يعلم مثلا انّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدّم ـ اي : الآن الّذي كان فيه زيد في الدار ـ ، أو بأن يعلم انّه ليس في الدار في شيء من الأزمنة لا بأن يعلم انّه ليس في الدار على الاطلاق ، لكن المطلقة لا تنافي الوقتية ؛ ولا بأن يعلم انّه ليس في الدار في الآن الّذي ليس فيه في الدار ، فانه لا ينافي كونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الدار. وعلى هذا يلتزم أن لا يكون بقاء ذلك العلم الأوّل موجبا للجهل ، فانّ العلم في آن خروج زيد في الدار بكونه في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه مطابق للواقع ولا يوجب جهلا ، وإذا لم يكن بقاء العلم بكون زيد في الدار في الآن السابق الّذي كان فيه في الآن الثاني ـ أعني : آن الخروج ـ موجبا للجهل فلا يلزم تحقّق زوال ذلك العلم في الواجب ـ تعالى ـ حتّى يلزم التغيّر في ذاته. فالدليل المذكور لا ينفى العلم بالمتغيرات عن الواجب ـ تعالى ـ لان ذلك العلم ـ أي : العلم بالخروج على الاطلاق أو في الآن الثاني ـ لا يستلزم الزوال المذكور ـ أي : الزوال الّذي هو بالحقيقة زوال للعلم بكون زيد في الدار في الآن المقدّم ـ ، وهو ما ذكرناه بقولنا : « بأن يعلم مثلا إنّ زيدا ليس في الدار في الآن المقدم أو في شيء من الازمنة ». وكذلك العلم لا يستلزم عدم البقاء المذكور  ـ أي : عدم بقاء انّه في الدار في الآن السابق ـ ، وحينئذ لنا أن نختار في الجواب المذكور أوّل شقّي الترديد ـ أعني : بقاء العلم السابق ـ ولا يلزم منه الجهل ،   لانّ العلم ليس إلاّ معلومية أمر على وجه يطابق الواقع ، والمعلوم هو كون زيد في آن قبل هذا في الدار ، والامر كذلك في الواقع. ولا يلزم أيضا تغيّر العلم ، بل اللازم تغيّر المعلوم فقط.

والحاصل انّ نقيض الشيء رفعه ورفع العلم بأنّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يزول العلم بكون زيد في الدار في ذلك الآن الفلاني الّذي كان العلم أوّلا تعلّق بكونه في الدار في ذلك الآن ؛

وثانيهما : أن يعتقد انّ زيدا لم يكن في الدار في شيء من الأزمنة والآنات ، ففي تلك الصورتين يلزم زوال العلم الأوّل ورفعه. وأمّا إذا اعتقد انّ زيدا كان في الآن الفلاني في الدار وفي آن آخر بعد ذلك الآن أو قبله لم يكن في الدار لم يلزم تناقض ولم يلزم رفع العلم بكون زيد في الدار في الآن الفلاني ، فيمكن ارجاع العلمين ـ أي : العلم بكون زيد في الدار والعلم بأنّه لم يكن في الدار ـ إلى تغاير الآنين ؛ فبقاء العلم الأوّل بحاله عند حصول العلم الآخر لا يكون موجبا للجهل. وبذلك يظهر انّ الدليل المذكور لا ينتهض حجّة للزوم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ إذا علم الجزئيات المتغيّرة.

ثمّ قال الخفري : « ويمكن حمل الدليل المشهور المذكور على هذا التقرير بصرفه عن الظاهر».

وغير خفي بأنّ بناء الدليل المشهور المذكور أوّلا إنّما على توهّم وقوع التجدّد في اجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا كما هو بالنسبة إلينا ـ على ما زعمه الجمهور ـ. ولا ريب حينئذ في لزوم التغير بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا ، فانّ توضيح الدليل المذكور حينئذ : انّه لا شكّ في أنّ زيدا إذا كان في الدار في الآن كان في الدار في وقت معيّن ونحن نحكم في ذلك الوقت المعيّن الّذي هو الآن بالنسبة إلينا بأنّ زيدا في الدار في الآن ، فإذا انقضى ذلك الوقت وخرج زيد عن الدار وتجدّد علينا وقت آخر هو الآن بالنسبة إلينا فنحن نحكم في ذلك الوقت الآخر ـ الّذي هو الآن حينئذ بالنسبة إلينا ـ بأنّ زيدا ليس في الدار في الآن ، ولو حكمنا بأنّ في الدار الآن كان ذلك باطلا. وحينئذ فقد زال عنّا الحكم الأوّل ـ أعني : انّه في الدار الآن ـ وحصل الحكم الثاني ـ أعني : انّه ليس في الدار الآن ـ .

وتغاير الآنين لا يمنع زوال الحكم الأوّل بالثاني ، كما لا يخفى. فالحكم الأوّل ـ أعني : كون زيد في الدار في الآن ـ زائل عنا البتّة. وبقاء العلم بأنّه كان في الدار في الآن الزائل لا يفيد ، لأنّ هذا العلم ليس العلم الأوّل بل هو علم متجدّد ، فانّ العلم بأنّ زيدا كان في الدار في الآن الّذي انقضى علم آخر تجدّد لنا بعد العلم بأنّه كان في الدار في الآن ، والحكم بأنّه كان في الدار في الآن الّذي انقضى حكم آخر غير الحكم بأنّه في الدار الآن. والسبب في ذلك هو وقوعنا في الآن أوّلا ثمّ بعد انقضائه وقوعنا في الآن الآخر ثانيا ـ لكوننا زمانيّين ـ. فلو كان الواجب أيضا مثلنا في ذلك الوقت ـ كما زعمه الجمهور ـ كان ذلك الزوال ـ أعني : زوال الحكم الأوّل ـ في حقّه ـ تعالى ـ أيضا لازما ، فلا ينفع في ذلك كونه عالما بأنّ زيدا في الوقت السابق كان في الدار ، فانّ ذلك كما عرفت ـ حكم آخر غير الحكم الزائل ، فالتغيّر لازم البتّة!.

وإذا عرفت ذلك فنقول : لا ريب في انّ تقرير العلاّمة الخفري منطبق على هذا التقرير ، لأنّه أيضا مبنيّ على توهّم التجدد في أجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. ويظهر ذلك الانطباق بأن يمثّل للجزئي الغير الحاضر في آن في تقرير الخفري (1) بكون زيد في خارج الدار وللجزئى الحاضر في ذلك الآن بكون زيد في الدار ، ويجعل « البعدية » المستفادة من قوله : « ثمّ حضر عندنا ذلك الجزئى الأوّل بعد حضور الجزء الثاني » على البعدية الزمانية. وحينئذ يؤول حاصل تقرير الخفري إلى التقرير الّذي أوردناه توضيحا للدليل المشهور المذكور أوّلا. وحينئذ فحمل الدليل المشهور على تقرير الخفري لا يحتاج إلى صرفه عن الظاهر ـ كما ذكره ـ.

وممّا يوضح ما ذكره ما ذكره بعض الأعلام حيث قال : لا شكّ في أنّ كلاّ من الحوادث المتغيّرة له اختصاص بزمان هو ظرف وقوعه ، فإذا فرضنا أنّ اليوم الّذي هو وقت تكلّمنا هذا ظرف لوجود حادث معيّن فنقول : انّك إن تأمّلت وجدت هناك معلومين :

أحدهما : كون هذا الجزء من الزمان ظرفا لهذا الحادث ، وهو معنى حقيقي لا يتغيّر بمضيّ الزمان وغيره ، فانّه إذا كان وجود زيد مثلا واقعا في يوم الجمعة يصدق دائما انّ يوم الجمعة ظرف لوجود زيد. وهذا لا يمكن تغيره وزواله في الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، بل في غيره أيضا لو كان عالما بالسابق واللاحق إلاّ بالنسيان وشبهه ، والشبهة لا تتمّ في ثبوت مثل هذا التغيّر وهو الّذي ذكره الخفري ونفاه ؛

والثاني : كون هذا الجزء من الزمان هو الحاضر الآن عندنا مع هذا الحادث المخصوص دون الّذي قبله وبعده. ولا شك في تغيّر هذا المعنى والعلم به في حقّنا ، إذ بعد يوم الجمعة الّتي فرضنا انّه وقت وجود الحادث لا يصدق انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن هو يوم السبت مثلا مع ما فيه. وكذا الحال قبل يوم الجمعة ، إذ لا يصدق فيه انّ الحاضر عندنا الآن هو الحادث المذكور مع يوم الجمعة ، إذ الحاضر الآن فيه هو يوم الخميس مثلا مع ما فيه. ولا ريب في أنّ الغرض في الدليل المشهور المذكور أوّلا هو اثبات التغيّر في المعنى الثاني في حقّه ـ تعالى ـ لا المعنى الأوّل. ولا يخفى توجيهه بمثل ما ذكرنا في حقّنا بأن يقال : إذا حضر يوم الجمعة مع دخول زيد الدار فيه مثلا عنده ـ تعالى ـ يحصل له ـ تعالى ـ أيضا العلم بالمعلومين المذكورين ـ كما عرفت ـ ، وإذا مضت يوم الجمعة وصارت يوم السبت فلا كلام في أنّ المعنى الأوّل لا يتغيّر بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. وامّا المعنى الثاني ـ وهو : انّ الآن الحاضر هو يوم الجمعة الّتي دخل فيه زيد الدار ـ إن كان العلم به باقيا لزم الجهل ـ لأنّ الآن الحاضر هو يوم السبت مع ما فيه دون يوم الجمعة ـ ، وان تغيّر بمعنى أن يتجدّد له العلم بأنّ الآن هو يوم السبت بعد ما علم بأنّ الآن هو يوم الجمعة لزم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ ؛ ولا ريب في أنّ غرض المستدلّ بالدليل المذكور هو اثبات التغيّر في هذا المعنى حيث قال : « إذا علم مثلا انّ زيدا في الدار في الآن » ؛ فانّ غرضه من قوله : « في الآن » هو الاشعار بالمعنى الثاني ، ولذا لم يقل : « إذا علم أنّ زيدا في الدار يوم الجمعة » ، فانّه يوهم إلى المعنى الأوّل.

ثمّ لا ريب في أنّ بناء التقرير المجمل الّذي ذكره العلاّمة الخفري على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، فما ذكره من أنّه يمكن حمل الدليل المذكور عليه بصرفه عن الظاهر محلّ نظر ، لأنّه هو الظاهر من الدليل المشهور ، دون اثبات التغيّر في المعنى الأوّل كما حمل الخفري عليه أوّلا واعترض عليه ـ كما نقلناه ـ ؛ هذا.

ثمّ انّ المحقّق الدوانى قد قرّر الشبهة بوجه آخر ، وحاصله : انّ علمه ـ تعالى ـ بمعلولاته عين ذاته ، ولا ريب في انّه ـ تعالى ـ عالم بمعلولاته المتغيّرة ـ من حيث هي متغيّرة لانها بهذه الحيثية معلولة له تعالى ـ ، فإذا علم المتغير من حيث تغيره بأن يتقدّم منه شيء بعد أن كان أو عكس ذلك فان لم يتغيّر العلم به حصل تغيره ولزم الجهل ـ لعدم مطابقته للواقع ـ ، وان تغيّر لزم التغيّر في ذاته ـ لأنّ العلم عين الذات ـ.

ولا ريب في أنّ هذا التقرير أيضا راجع إلى ما ذكر ، يعنى بنائه على اثبات التغيّر في المعنى الثاني ، إذ التغيّر إنّما يقع بالذات في اجزاء الزمان وبواسطتها في الزمانيات. فإذا علم بسلامة زيد في يوم السبت مثلا ثمّ علم في يوم الأحد بانعدام عضو منه فلا ريب في أنّ علمه بسلامة زيد في يوم السبت ـ لا كون هذا اليوم ظرفا لسلامته ـ لم يتغيّر بمضيّ يوم السبت ومجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه من انعدام عضو من زيد ، لعدم وقوع التغيّر في ظرفية يوم السبت للسلامة ، بل التغيّر بعد مجيء يوم الأحد مع ما حدث فيه إنّما حصل في كون الآن الحاضر عنده هو يوم السبت وكون الحاصل في الآن الحاضر هو سلامة زيد ، لأنّ الآن الحاضر بعد مضيّ يوم السبت هو يوم الأحد وكون الحاصل في الآن حينئذ هو انعدام عضو من زيد ، فحصل التغيّر في علمه أيضا بهذا المعنى ـ أعني : في كون الآن الحاضر هو يوم السبت وكون الحاضر فيه هو سلامة زيد ـ. وقد ظهر ممّا ذكر انّ مناط الشبهة على جميع التقريرات إنّما هو لزوم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ لاجل تعلّقه بأجزاء الزمان المتغيرة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ بالحالية والمضيّ والاستقبال ، ولأجل تعلّقه بما يقع فيها من الحوادث المتغيّرة وجوداتها واعدامها وسائر أحوالها أيضا لو فرض الاحوال الثلاثة لها نظرا إلى وقوعها في اجزاء الزمان.

ثمّ قد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه ثلاثة :

أوّلها : منع لزوم التغيّر فيه ـ تعالى ـ ، لأنّ التغيّر ـ على ما علم ـ إنّما هو في الاضافات لأنّ العلم اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة ؛ فعلى الأوّل يتغيّر نفس العلم ؛ وعلى الثاني يتغيّر اضافاته فقط وعلى التقديرين لا يلزم تغيّر في صفة موجودة ، بل في مفهوم اعتباري ، وهو جائز. وعلى هذا فالجواب عن شبهة عدم علمه بالجزئيات المتشكلة : انّ ادراك المتشكّل إنّما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان الادراك بحصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقية ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إلى آلة جسمانية أصلا.

وأنت خبير بانّه على ما اخترناه وان كان الجواب عن شبهة عدم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات المتشكّلة صحيحا لأنّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته إذا كان منشأ للانكشاف وكان الانكشاف بالحضور دون ارتسام الصور لم يكن حاجة إلى آلة جسمانية أصلا ؛ نعم ما ذكر في الجواب المذكور من أنّ العلم صفة حقيقية ذات اضافة ممّا يناسب مذهب الاشاعرة القائلين بزيادة الصفات ؛ فبطلانه ظاهر.

وأمّا الجواب المذكور عن شبهة لزوم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ ، فهو غير تامّ ؛ لأنّ العلم بمعنى الاضافة الاشراقية وان كان ثابتا له ـ تعالى ـ عندنا ووقوع التغيّر في الاضافة لا يوجب التغيّر في الذات أو في صفة حقيقية لها ، إلاّ أنّ تغيّر اجزاء الزمان وما يقع فيها من الحوادث بتجدّد حضوراتها وبالحالية والمضيّ والاستقبال يستلزم تجدّد نسب الأزمان واجزاء الزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ويوجب تغيّر نسب الحوادث في الحالات الثلاث بالقياس إليه ـ تعالى ـ ، مع أنّه ـ تعالى ـ مجرّد متعال عن الزمان والزمانيات ونسبته إلى جميع الأوقات والأزمان متساوية كما انّ نسبته إلى جميع الأمكنة والأحياز كذلك.

وقد ظهر مما ذكر انّ ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد في الجواب عن الشبهة المذكورة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (2) ليس بتامّ.

وقال العلاّمة الخفري : المناسب في الجواب عن هذه الشبهة على التحقيق الّذي هو مختار المحقّق أن يقال : انّ العلم عندنا نفس المعلوم ، فالتغير فيه ليس إلاّ التغيّر في المعلومات ولا يلزم منه التغيّر في ذات العالم ، بل إنّما يلزم منه التغيّر في الحضور الّذي هو لازم للعلم نظرا إلى أنّ العلم لمّا كان عين المعلوم كان العلم حقيقة هو الأمر الحاضر والحضور لازم للحاضر ، فالحضور لازم للعلم وهو الأمر الاضافي. والتغيّر فيه جائز بالنسبة إلى واجب الوجود ـ تعالى ـ كتغيّر الإيجادات ، فانّ كلّ ايجاد من ايجادات الحوادث إنّما كان في وقت ومع كلّ ايجاد انكشاف حضوري مقارن له ؛ وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي بقوله : «وتغيّر الاضافات ممكن ».

وغير خفي بأنّ مبنى كلامه على كون العلم الحقيقي هو نفس المعلوم ـ على ما ظهر من كلام المحقّق أيضا ـ ، وقد عرفت ما فيه ؛ وعلى انّ التغيّر في الحضور الّذي هو الانكشاف لا بأس به ، وقد عرفت انّ التغيّر فيه وإن لم يستلزم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ إلاّ أنّه يستلزم تجدّد نسب الأوقات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ؛ وهو ليس بصحيح.

وأورد عليه : بأنّ كون العلم نفس المعلوم يقتضي كون العلم زائدا على الذات ، مع انّ مذهب المحقّق الطوسي انّ العلم عين الذات.

فان قيل : العلم الّذي هو عين الذات عنده هو العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما تقدّم ـ ، والّذي نفس المعلوم هو العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي ؛

قلت : محال ؛ فما ذكره الخفري في الجواب عن الشبهة المذكورة إنّما يكون جوابا على تقدير كون المراد من العلم الّذي هو مذكور في الشبهة العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي الّذي هو عين الذات. ولو اريد منه العلم الاجمالي لم يكن هذا الجواب مطابقا ، بل الجواب حينئذ أن يقال : انّ العلم الاجمالي أمّا على الاحتمال الأوّل فهو معقول واحد بسيط لا تكثّر فيه أصلا ، وليس علما بتفاصيل الأشياء وخصوصياتها حتّى يلزم من تغيرها تغيره ؛ وأمّا على الاحتمال الثاني ـ أعني : كون مجرّد ذاته تعالى مناطا ومصحّحا للانكشاف وتمكّنه على ايجاد الأشياء منكشفة عنده ـ فهو عين ذاته ـ تعالى ـ ولا تغير ولا تكثر فيه أصلا ، وإنّما المتغير والمتكثّر هو المعلومات. والاضافة العارضة له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى كلّ معلوم معلوم وتغير المعلومات والاضافات لا يستلزم تغيّر العلم الّذي هو عين ذات الواجب ؛ وإلى هذا اشار المحقّق بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » (3).

ولا يخفى عليك انّ العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل وإن لم يكن فيه تغيّر ـ نظرا إلى عدم تعلّقه بخصوصيات الأشياء وتفاصيلها ـ إلاّ أنّك قد عرفت بطلان القول به. والعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني وإن كان عين الذات وليس فيه تغيّر ، إلا انّه لا بدّ معه من القول بثبوت العلم بمعنى الاضافة الاشراقية ، ومع تسليم ثبوت التغيّر فيها يلزم ما ذكرناه سابقا من لزوم تجدّد نسب الأوقات والأزمان بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ؛ هذا.

وأورد بعض الأفاضل على التقرير المناسب الّذي أورده الخفري بأنّ هذا لا يدفع الشبهة على التقريرات المذكورة ، إذ بدّل لزوم التغيّر في العلم فيها بلزوم التغيّر في الحكم ؛ على انّه لا حاجة إلى هذا التبديل ، لأنّ المراد بالعلم هو الحكم. وعدم دفع الشبهة حينئذ لما عرفت من انّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الأزمنة. وكون العلم حضوريا لا ينفع في ذلك.

وأيضا نقول : إذا كان شيء من الأشياء منكشفا بذاته عنده ـ تعالى ـ في زمان معيّن بسبب حضور ذاته في ذلك الزمان فإذا انقضى ذلك الزمان يزول لا محالة ذلك الانكشاف ، لأنّ الحضور إنّما كان بسببه وقد زال سواء بقى صورته في المدرك أم لا ، إذ الانكشاف الحضوري أمر وراء العلم الصوري كما انّ المبصر إذا غاب عن بصرنا يزول عنّا الحالة الّتي نسمّيها الابصار ، ولا يكفى في ذلك بقاء صورته في خيالنا. ولا شبهة في انّ الانكشاف المذكور وكذا الابصار حالتان وجوديتان يستلزم زوالهما زوال حالة وجودية عن المبصر وعن المنكشف لديه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره أوّلا من أنّ تغيّر الحكم لازم بسبب وقوع الحاكم تحت الازمنة ممنوع ـ كما عرفت مرارا ـ ؛ إلاّ أنّ غرض الخفري وغيره ممّن أجاب عن هذه الشبهة انّ العلم الّذي يلزم فيه التغيّر ـ سواء كان بمعنى الحكم أم لا ـ هو أمر اضافي والتغير فيه جائز بالنسبة إلى الواجب ـ سبحانه ـ ، فكان اللازم أن يدفع هذا الجواب على ما ذكرناه من أنّ التغيّر في الأمر الاضافي وإن كان جائزا إلاّ انّه غير جائز ـ لاستلزامه تغيّر نسب الحوادث والاوقات بالنسبة إليه تعالى ـ.

وامّا ما ذكره ثانيا من زوال الانكشاف بانقضاء الزمان الّذي كان المعلوم حاضرا فيه دون ما بعده من الزمان ـ لأنّه لا ريب في زوال الحضور بعد مضى الزمان وانعدام ما فيه ـ ، ففيه : إنّ هذا شبهة على علمه بالمعدومات وقد تقدّم الجواب عنه ، والكلام هنا في لزوم التغيّر في علمه ـ سواء كان العلم حصوليا أو حضوريا ، وسواء كان المعلوم معدوما أو موجودا ـ ، فالشبهة الموردة هنا إنّما هو شبهة تغيّر علمه ـ تعالى ـ ، فما ذكره المورد المذكور ثانيا من تحقّق زوال الانكشاف على القول بالعلم الحضوري لبداهة زوال الحضور بعد مضيّ الزمان وانعدام ما فيه مبني على توهّم تركيب الشبهتين.

نعم! ، الحقّ انّ الجواب الصحيح عن هذه الشبهة ـ أعني : شبهة تغيّر علمه تعالى ـ هو الجواب المذكور عن كيفية علمه بالمعدومات ـ كما يأتي مفصلا ـ ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : اللائق في الجواب عن الشبهة المذكورة أن يقال : انّ علمه ـ تعالى ـ لمّا كان حضوريا غير زائد على الذات فيعلم كون زيد في الدار في الزمان أو الآن ، ولا يزول هذا العلم بخروج زيد عن الدار بعد الزمان أو الآن الّذي كان فيها ، بل يبقى هذا العلم ويعلم أيضا كون زيد خارجا عنها بعد زمان كونه في الدار من غير لزوم محذور ؛ وتغاير المعلولين بالذات لا يستدعي تغاير العلم إلاّ بالاعتبار والاضافة ، وهو غير مستحيل. وإليه اشار العلاّمة الطوسي بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن » ؛ انتهى.

وفيه : انّ القول ببقاء العلم بكون زيد في الدار في زمان مع العلم بخروجه عنها في زمان آخر ان اريد منه إنّ العلم بظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار باق مع العلم بظرفية الزمان الثاني لخروجه عنها ، فهذا مسلم ، إلاّ أنّا لا نقول انّ التغيّر وقع في ظرفية الزمان الأوّل لدخول زيد في الدار ، بل التغيّر ـ على ما تقدّم ـ إنّما هو في كون الزمان الأوّل مع دخول زيد في الدار الحادث فيه حاضرا في الآن ؛ وإن أريد منه انّ العلم بأنّ الزمان الأوّل مع ما حصل فيه ـ أعني: دخول زيد في الدار ـ حاضر في الآن باق مع العلم بأنّ الزمان الثاني مع ما حدث فيه ـ أعني : خروج زيد عنها ـ حاضرفي الآن ، فهو ممنوع ، ووجهه ظاهر مما تقدّم ؛ وإذا لم يجتمع هذان العلمان فيلزم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ. نعم! ؛ القول ببقاء هذين العلمين معا إنما يمكن تصحيحه بأحد الوجهين الآتيين اللّذين أحدهما مردود عند التحقيق ـ وهو التزام القول بالعلم الحصولي حتّى تكون صورة كون زيد في الدار وصورة كونه خارجا عنها مرتسمتين ، إمّا في ذاته تعالى وإمّا في المدارك العالية على اختلاف بين القائلين بالعلم الصوري كما عرفت ـ ، وثانيهما مقبول عندنا ـ وهو القول بحضور جميع الحوادث دفعة واحدة بلا استمرار وتجدّد عنده تعالى ـ. وبدون التزام أحد هذين الوجهين لا يمكن تصحيح القول ببقاء العلمين معا. والفاضل المذكور قد أنكر كلا القولين معا ، أمّا الأوّل فكما صرّح به في هذا الكلام ، وأمّا الثاني فكما صرّح به عند ردّه على المحقّق الدواني في قوله بحضور أجزاء الزمان مع ما فيها عنده ـ تعالى ـ حيث قال : « هذا طور وراء طور العقل ووجوه البحث فيه ظاهرة ، وفيه التزام قدم كلّ حادث » ؛ وحينئذ فكيف يمكن له القول ببقاء العلمين معا!؟.

وثانيها (4) ـ أي : ثاني الوجوه لدفع الشبهة المذكورة ـ هو : انّ علمه ـ تعالى ـ إنّما هو بحصول الصور لا بانكشاف الذات ، فلا يكون حكمه واقعا في آن من الآنات بأن يكون الآن ظرفا للحكم ولا علمه متعلّقا بالحوادث الزمانية من حيث وقوع كلّ منها في زمان خاصّ ووقت معيّن حتّى يلزم التغيّر بتغيّر المعلوم ، بل إنّما يعلم الكلّ من حيث اسبابها الكلّية. كما في علم المنجّم بالخسوف الجزئي المعيّن إذا كان حاصلا من قواعد علم النجوم وطريق ضبط الحركات لا من جهة الإحساس ، فانّه لا يتغيّر بحسب تجدّد أزمنة القبل والبعد والمقارنة.

وهذا الوجه عندنا باطل ، لما عرفت من بطلان القول بالعلم الحصولي ؛ وقد صرّح جماعة بأنّه يلزم على هذا القول عدم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل يكون علمه ـ تعالى ـ حينئذ على سبيل الكلّية. وقد نسب ذلك إلى الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الصوري ، وربما كفّرهم جماعة لذلك ؛ وسيجيء تحقيق ذلك في محلّه.

وثالثها ـ وهو الحقّ المختار ـ : انّ علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ، فانّه ـ تعالى ـ لتعاليه عن الزمان واحاطته به يكون جميع أجزاء الزمان عنده متساوية ولا يكون بالنسبة إليه قبل وبعد ومقارنة وكان ويكون ؛ قال بعض الفضلاء : قال الحكماء : علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ـ أي : واقعا في الزمان ـ كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة ، فانّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعا في الحال وما حدث قبله أو بعده كان واقعا في الماضي أو المستقبل. وامّا علمه ـ تعالى ـ فلا اختصاص له بزمان أصلا ، فلا يكون ثمّة حال ولا ماض ولا مستقبل ، فانّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه ـ إذ الحال معناه زمان حكمي هذا والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا ـ ، فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان غير محتاج في وجوده إليه وغير مختصّ بجزء معيّن من أجزائه لا يتصوّر في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل ، فالله ـ سبحانه ـ عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها. لا من حيث أنّ بعضها واقع الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علما شاملا متعاليا منزّها عن الدخول تحت الازمنة ثابتا أبد الدهر.

وتوضيحه : انه ـ تعالى ـ كما لم يكن مكانيا فكان نسبته إلى جميع الامكنة على السواء ـ فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط ـ ، كذلك لمّا لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانيا لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضيّ والاستقبال والحضور ، بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على سواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كلّ في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها. فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها ، لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب  أوصافها الثلاثة ـ إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ـ. ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرّا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات.

قال بعض الفضلاء : وهذا معنى قولهم : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على وجه كلّي لا ما توهّمه بعضهم من أنّ علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها وما يتعلّق بها من الأحوال ، كيف وما ذهبوا إليه من أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ينافي ما توهّموه! ؛ انتهى.

ثمّ اعلم! ، انّ عدم كون علمه ـ سبحانه ـ زمانيا وبراءته عن الوقوع في الزمان وكونه عالما بالأشياء جميعا في الأزل على نهج واحد من دون تغيّر وتجدّد إنّما يتصوّر لأحد من أمور أربعة :

الأوّل : أن يكون ذلك لأجل كون علمه صوريا كلّيا حاصلا من الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى الجزئيات المتغيّرة ، فانّه ـ سبحانه ـ إذا علم الجزئيات بصورتها الكلّية وطبائعها المجردة من عللها وأسبابها يكون هذا العلم مقدّسا عن الوقوع في الزمان ؛ وعلى هذا لا تكون الأشياء معلومة له ـ تعالى ـ بحضوراتها العينية.

ومفاسد هذا الوجه كثيرة ـ كما عرفت ـ.

وأنت تعلم انّ هذا الامر هو الوجه الثاني بعينه ، فيكون الوجه الثاني داخلا تحت الوجه الثالث وواحدا من اقسامه.

الثاني : أن يكون لأجل علمه ـ تعالى ـ في الأزل بذواتها العينية على التفصيل والجزئية بأن تكون بأنفسها ووجوداتها العينية ثابتة له ـ تعالى ـ في الأزل حاضرة منكشفة عنده فيه بخصوصياتها وإن لم توجد بعد في الخارج ، لما حقّقناه سابقا من انّه ـ تعالى ـ لمّا كان محيطا بالزمان متعاليا عنه وجميع اجزاء الزمان بالنسبة إليه كان واحدا في معية الوجود فيكون الزمان بأسره والزمانيات برمتها موجودة له ـ تعالى ـ في الأزل وإن لم تكن موجودة بأنفسها ـ على ما مرّ مفصّلا ـ.

الثالث : أن يكون لاجل علمه بذواتها على التفصيل والجزئية لا لكونها حاضرة عنده ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية ، بل لكونها معلولاته ـ تعالى ـ ولوازم ذاته الفائضة المترشّحة عنه ـ سبحانه ـ ، فانّ كونها من مقتضيات ذاته المندرجة فيه ـ سبحانه ـ يقتضي انكشافها مفصّلة متخصّصة عنده ـ تعالى ـ ، على ما قررناه وذكرنا انّه أيضا ممّا يتصحّح به العلم الحضوري.

الرابع : أن يكون لأجل علمه ـ تعالى ـ بذواتها لكونه من مقتضيات ذاته ـ تعالى ـ ، لكن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل ؛ والعلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل ـ أعني : بمعنى الانكشاف الاجمالي ـ لا تغيّر فيه. وعلى هذا الأمر الرابع لا يكون الأشياء معلومة له ـ تعالى ـ بخصوصياتها ، ولذلك يكون باطلا.

وقد ظهر ممّا ذكرناه انّ علمه ـ سبحانه ـ بالأشياء ليس زمانيا وإنّ السبب في ذلك هو الأمر الثاني أو الثالث دون الأوّل والرابع.

فهنا مطلبان :

الأوّل : عدم كون علمه زمانيا ؛

والثاني : كون السبب في ذلك هو ما ذكر. فلا بدّ لنا من تنقيح القول فيهما وردّ ما أورد عليهما. فنقول :

أمّا المطلب الأوّل فوجهه ظاهر ممّا تقدّم ، فانّ الواجب ـ سبحانه ـ لمّا كان محيطا بالزمان والزمانيات متعاليا عنهما فلا معنى لوقوع علمه تحت الزمان ، والكلام الّذي نقله بعض الفضلاء عن الحكماء ـ كما ذكرناه ـ واف لاثبات هذا المطلب.

وقد أورد عليها العلاّمة الخفري بعض الايرادات ، فلا بدّ لنا من ذكرها ودفعها.

فقال : لا شبهة في أنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات باعتبار وجودها العيني ـ أعني : حضورها ـ ، بل الحاضر باعتبار ذلك الوجود زماني واقع في الزمان ، فانّ الحوادث لمّا كانت مختصّة بأزمنة معينة كان حضورها باعتبار الوجود العيني مختصّا بتلك الأزمنة المعينة. ولا يخلو إمّا أن تكون تلك الحوادث بعينها باعتبار الوجود العيني علما بها أو حضورها وانكشافها باعتبار ذلك الوجود علما بها ؛ وعلى التقديرين كان العلم بها باعتبار الوجود العيني زمانيا ـ أي : واقعا في الزمان ـ. نعم! ، العلم المتقدّم على الايجاد ليس زمانيا ولا تغير فيه أصلا وهو إمّا إجمالي وهو عين ذات واجب الوجود. ولا يخفى انّ الجزئيات باعتبار هذا العلم معلومة على الوجه الجزئي ولا يصحّ القول بأنّها معلومة بهذا العلم على الوجه الكلّى.

فان قيل : انّها معلومة على الوجه الكلّى باعتبار هذا العلم ، كما وقع في عبارة بعض الحكماء ، فانّه يصحّ بأحد التأويلين اللّذين أحدهما من المحقّق الطوسي وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بالكلّية ، أي : بجميعها بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء منها لا انّه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ ؛ وثانيهما من بعض المتأخّرين ، وهو : انّ مرادهم انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في آن لا يتغيّر العلم بها. وإمّا تفصيلي فلا حاجة إلى شيء من هذين التأويلين ، فانّ الجزئيات قبل الايجاد الخارجي إنّما يعلم على الوجه الكلّي ، فانّ كلّ شخص من الأشخاص قبل الايجاد يكون معلوما بوجه كلّي منحصر في شخص وفي وقت الايجاد يكون معلوما بذاته على وجه يكون مانعا من وقوع الشركة. وغير خفي بأنّ المراد من العلم التفصيلي المتقدّم هنا هو المرتبة الأولى والمرتبة الثانية من مراتب العلم التفصيلي المتقدّمة، فانّ في هاتين المرتبتين لا يحصل إلاّ الصور الكلّية ـ كما تقدّم ـ. وإنّما خصّصنا العلم التفصيلي بهاتين المرتبتين بقرينة قوله : « فانّ كلّ شخص من الأشخاص يكون قبل الايجاد معلوما بوجه كلّى منحصر في شخص » ، فالواجب يعلم الجزئيات بهذا العلم قبل ايجادها على الوجه الكلّي ـ أي : بصورة غير مانعة من الشركة ـ باعتبار ارتسام تلك الجزئيات في العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة الانسانية ، فانّها وما فيها حاضرة عنده ـ تعالى ـ. وليس المراد انّ العلم التفصيلي المتقدّم على الايجاد بالجزئيات حينئذ منحصر بالوجه الكلّي ، بل المراد انّ هذا العلم ـ أي : العلم بالوجه الكلّي ـ أيضا يحصل له وإن تحقّق له ـ تعالى ـ العلم بها قبل الايجاد على الوجه الجزئي أيضا ـ كعلمه بالجزئيات المرتسمة في الآلات الجزئية المادّية والخيالات الفلكية ، فانّها مع ما فيها أيضا منكشفة عنده تعالى ـ ؛ انتهى ما ذكره بأدنى توضيح.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال ، لأنّ المحيط بالزمان والمتعالي عنه كيف يكون صفاته زمانية ـ أي : واقعة في الزمان؟! ـ ، فانّ ذلك مخالف للقواعد العقلية والنقلية. فهذا العلاّمة إن أراد انّ علم الواجب ـ تعالى ـ بمعنى الانكشاف حادث زماني ، فهو باطل عقلا وشرعا ؛ وإن اراد انّ العلم بمعنى المعلوم حادث زماني ، فلا نزاع في ذلك. وقد عرفت انّ مناط علم الواجب بالأشياء ـ سواء كانت زمانية أو غير زمانية ـ ليس نفس وجوداتها وحقائقها ، وإلاّ لزم أن يكون علمه انفعاليا وحادثا ، وهو باطل ؛ بل مناط علمه بالأشياء هو حضور ذاته عند ذاته وعلمه بذاته ، فالأشياء معلومات لا علوم.

وأيضا قد عرفت ممّا قرّرناه وحقّقناه انّ الأشياء قبل ايجادها في الخارج حاضرة له ـ تعالى ـ في الأزل ومنكشفة عنده بوجوداتها العينية على التفصيل ولا تفاوت في علمه بها قبل ايجادها وبعده، فالقول بأنّ العلم قبل الايجاد إمّا اجمالي جزئي أو تفصيلي كلّي ، باطل ؛ لاستلزام الأوّل جهله ـ سبحانه ـ بخصوصيات الاشياء فيعلم بعضها ويفوت عنه بعض آخر ، واستلزام الثاني جهله ـ تعالى ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ؛ هذا.

وأورد عليه بعض الأفاضل بأنّ كون المعلوم باعتبار الحضور زمانيا لا يوجب كون العلم به زمانيا ؛ وهذا من العجائب! ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعد ذلك بقوله : « انّ علمه ـ تعالى ـ الحادث المتعلّق بالحادث باعتبار وجوده العيني مخصوص بالزمان ، فيتصوّر باعتباره وباعتبار الصفات الاعتبارية الحادثة المخصوصة بالأزمنة ـ كالإيجادات وفعلية التكلّم وارسال الرسل ونحوها ـ حال وماض ومستقبل ـ كما وقع في القرآن المجيد ـ ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما عرفت من أنّ علمه ـ تعالى ـ لا يكون متعلّقا بالزمان. وأمّا افعاله ـ تعالى ـ فهي من حيث استنادها إليه ـ تعالى ـ وصفاته الاعتبارية من حيث أنّها صفات له ـ تعالى ـ فليست أيضا زمانية ، وإلاّ لزم اتصافه ـ تعالى ـ بالزمان.

ويمكن أن يقال : انّها لعدم كونها من الصفات الأزلية الكمالية لا منع في كونها زمانية لعدم استلزام كونها زمانية لاتصافه ـ تعالى ـ بالزمان ، فانّ الايجاد وفعلية التكلّم بحدوثها وعدم كونهما من الصفات الكمالية الأزلية لا منع في كونهما ازليتين كما لا منع في حدوثهما. وأمّا مثل العلم الّذي يجب ثبوته له ـ تعالى ـ في الأزل فلا يمكن كونه زمانيا.

ثمّ أورد على ما تقدّم في الكلام المنقول عن الحكماء لا ثبات انّ الحال والماضي والمستقبل صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه ـ لقولنا : إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ... الى آخره ـ : بأنّه إن اريد بالحكم الحكم القديم لم يناسب هذا إلاّ مذهب الأشعري ، وإن اريد به مطلق الحكم الحادث ـ أي : أعمّ من أن يكون هذا الحكم الحادث من الواجب أو من العبد ـ أو أريد به الحكم المطلق الشامل للحكم القديم والحادث فلا يدلّ على ما هو المطلوب ـ أعني : كون علمه ـ تعالى ـ زمانيا ؛ انتهى بأدنى تغيير.

وتوضيح كلامه ـ على ما يستفاد من كلام بعضهم ـ : انّه لا شكّ أنّ المراد من تفسير كلّ واحد من الأوصاف الثلاثة بما ذكر إنّما هو لأجل أن يظهر منه انّ هذه الأوصاف الثلاثة بهذه التفسيرات لا يمكن أن يثبت له ـ سبحانه ـ ، فإذا كان الحال مثلا معناه زمان حكمي هذا فلا يمكن أن يكون ثابتا له ـ تعالى ـ ، لأنّه لا يكون لحكمه ـ تعالى ـ زمان يختصّ به.

فنقول : المراد من الحكم إن كان هو الحكم القديم ـ أي : الّذي يسمّى بالكلام النفسي المتعلّق بالكلام اللفظي الحادث ـ فلا ريب في عدم كونه زمانيا ، لأنّ القديم لا يتعلّق بالزمان. فإذا قلنا : الحال زمان حكمي هذا يكون مختصّا بالحكم الحادث ومنحصرا بالحكم الصادر عن العبد ، فلا يكون لحكمه ـ تعالى ـ حال. ولكن هذا لا يناسب إلاّ لمذهب الأشاعرة ، فانّهم لمّا قالوا بالكلام النفسي كانت الأوامر والنواهي الإلهية عندهم قديمة ، فلا تكون زمانية ، فالحكم الزماني يختصّ بحكم العبد بكونه حادثا. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يقولوا بالكلام النفسي ـ لعدم معقوليته ـ لم يفرّقوا بين حكم الله وحكم العبد ، فكما انّ حكم العبد عندهم حادث زماني كذلك حكم الله ـ تعالى ـ عندهم حادث زماني. فتفسير الحال بزمان حكمي هذا على أن يخرج منه حكم الله ـ تعالى ـ لا يناسب لمذهبهم ، بل إنّما هو يناسب لمذهب الأشاعرة فقط.

وإن كان المراد من الحكم المذكور مطلق الحكم الحادث ـ سواء كان حكم الواجب أو حكم العبد ـ أو الحكم المطلق ـ أي : سواء كان قديما أو حادثا ـ فلا يدلّ على المطلوب ـ الّذي هو اثبات أن ليس للواجب وعلمه حال وماض ومستقبل ـ ، لأنّ الحال مثلا إذا كان زمان الحكم الحادث أو المطلق الشامل له يكون بالنسبة إليه ـ تعالى ـ وعلمه حال بمعنى انّ له زمان الحكم الحادث. وغير خفي بأنّ كلامه على هذا الحال لا يكون خاليا عن اختلال ، لأنّ مراده من الحكم في قوله: « إن اريد بالحكم الحكم القديم» هو الحكم الواقع في تفسير الحال فقط حتّى يكون المراد انّ الحال معناه هو زمان الحكم القديم فقط. فيظهر منه نقيض المطلوب ، لأنّه لا يكون لحكم العبد حينئذ زمان أصلا ويختصّ بحكم الواجب ، ولا يناسب هذا مذهب أحد ـ لا الأشعري ولا غيره ـ. وإن كان مراده منه الحكم الّذي يراد اثبات عدم تعلّقه بالأوصاف الثلاثة بقوله في الشقّ الآخر وإن كان المراد مطلق الحكم الحادث لا معنى له ، فانّه لا يذهب أحد إلى القول بعدم تعلّق حكم العبد بالأوصاف الثلاثة.

ويمكن أن يقال : انّ غرضه انّ المراد من الحكم في تفسير الحال إن كان هو الحكم القديم فلا يناسب إلاّ لمذهب الأشعري من حيث انّ غيره لم يذهب إلى كون حكمه ـ تعالى ـ قديما ـ وإن كان تخصيص الحكم الزماني بالقديم لم يناسب لمذهب الأشعري أيضا ـ ، وإن كان المراد منه مطلق الحكم الحادث لزم خلاف المطلوب ـ أعني : عدم كون علمه زمانيا ـ ، لأنّه إذا كان حادثا يكون زمانيا البتّة.

وقيل : غرضه انّ المراد من الحكم الواقع في تفسير الأوّل إن كان هو الحكم القديم فجريان الأوصاف الثلاثة بهذا التفسير لا يتصوّر بالنسبة إليه ـ تعالى ـ عند غير الأشعري حتّى يحتاج إلى نفيه ـ لأنّ أحدا لم يذهب إلى أنّ القديم يمكن تعلّقه بالزمان إلاّ الأشعري ـ فإثبات عدم جريان الأوصاف الثلاثة بعد تخصيص الحكم بالقديم إنّما يناسب مذهب الاشعري ، وعند غيره لا يحتاج إلى الاثبات بداهة ؛ وإن كان المراد منه أعمّ من الحكم القديم والحادث فلا يدلّ على ما هو المطلوب ـ أعني : عدم جريان الأوصاف الثلاثة بالنسبة إليه تعالى ـ مطلقا. لجريانها في حكمه ـ تعالى ـ الحادث ، أو توهّم جريانها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ مطلقا لعدم تصوّر جريانها في حكمه القديم.

ثمّ الجواب عمّا ذكره : إنّ المراد من الحكم هو الحكم المطلق الشامل للقديم والحادث ، ولا يلزم كون حكمه زمانيا أصلا ؛ أمّا إذا كان قديما ، فظاهر ؛ وأمّا إذا كان حادثا فلأنّ افعاله ـ تعالى ـ من حيث استناده إليه ـ تعالى ـ ليست زمانية ، وكذا صفاته الاعتبارية من حيث أنّها صفات له ـ تعالى ـ ، إذ لو كانت زمانية لزم اتصافه بالزمان ، وهو باطل.

على أنّا نقول : انّ صفاته ـ تعالى ـ الّتي هي صفات كمالية ازلية غير زمانية ، وأمّا صفاته الفعلية الّتي ليست من الصفات الكمالية الأزلية ـ كالإيجاد وفعلية التكلّم ـ فلا مانع من كونها زمانية ، لأنّ كونها زمانية لا يوجب اتصافه ـ تعالى ـ بالزمان. فالمراد من الحكم إن كان هو العلم بمعنى الانكشاف فهو صفة كمالية ازلية ، فلا يكون حادثا زمانيا ؛ وإن كان ممّا يجوز كونه حادثا ممّا لا يكون كمالا له ـ تعالى ـ فلا يمتنع كونه زمانيا.

ثمّ قال : الصواب أن يقال في تفسير الحال : انّه زمان فيه وجودي وتكلّمي ، والماضي زمان قبل زمان وجودي وتكلّمي ، والمستقبل زمان بعد زمان وجودي وتكلّمي ؛ انتهى.

والفرض انّ الحال زمان يختصّ وجودي وتكلّمي به وعدم جريانه في حقّه ـ سبحانه ـ لعدم اختصاص وجوده ـ تعالى ـ به ، لا لعدم اختصاص التكلّم به ، فالمراد أنّه ليس زمان يختصّ تكلّمه ـ تعالى ـ به مع كون وجوده أيضا مخصوصا به ، فلا بدّ من ملاحظتهما معا. وأخذ الوجود والتكلّم معا إنّما هو لخروج الواجب بناء على مذهب المعتزلة ، فانّ التكلّم عندهم وإن جاز أن يكون في الحال لكن وجوده ـ سبحانه ـ لا يجوز أن يكون زمانيا عندهم ـ لأنّه قديم مرتفع عن الزمان ـ ، فإذا أخذ في تعريف الحال أن يكون ظرف الوجود والتكلّم معا يخرج الواجب ـ جلّ شأنه ـ ولا يكون حكمه حينئذ وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه لا يخفى عليك جلية الحال فيما ذكره.

ثمّ قال الخفري موردا على قولنا في الكلام المنقول عن الحكماء : « فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان ... إلى آخره » : إن اريد بهذا العلم العلم الّذي هو عين ذات واجب الوجود ـ تعالى ـ فلا حاجة إلى ذلك التطويل في بيان انّ الجزئيات من حيث هي جزئية معلومة باعتبار هذا العلم ؛ وإن اريد به العلم الزائد على الذات لم يناسب إلاّ مذهب البعض الّذين قالوا بالعلم القديم الزائد على الذات ، ولا يناسب مذهب أهل الحقّ من المحقّق الطوسي وغيره ؛ انتهى.

والجواب : انّ المراد من العلم إمّا ما هو المناط للانكشاف ـ وهو عين ذاته تعالى ـ ، أو نفس الانكشاف الّذي هو أيضا عين ذاته بالمعنى المتقدّم. والتطويل ليس لبيان انّ الجزئيات معلومة بهذا العلم ، بل لبيان معلوميتها به مع عدم كونه زمانيا. ثمّ إنّا لا نقول بالعلم الزائد مطلقا ـ لا القديم ولا الحادث ـ ، وتخصيص الخفري العلم الزائد عند غير الأشاعرة بالعلم القديم مبنيّ على ما زعمه من أنّ العلم الزائد على الذات حادث ، لأنّه حضوري ، فيحدث بحدوث الممكنات ؛ ونسب ذلك أيضا إلى المحقّق الطوسي.

ثمّ القول بالعلم القديم الزائد متناول لمذهب الأشعري ـ القائل بأنّ العلم صفة زائدة على ذاته ، ـ ولمذهب الحكماء المشائين ـ القائلين بالصور الكلّية الحاكية عن الموجودات العينية القائمة بذاته ـ ، ولمذهب الحكماء ـ القائلين بالصور القديمة الزائدة على ذاته القائمة بغير ذاته من العقول والنفوس الفلكية ـ ، بل لمذهب افلاطون ـ القائل بالصور القديمة القائمة بذاتها ـ أيضا ، فانّ هذه المذاهب الاربعة غير مناسبة لما ذهب إليه أهل الحقّ من عدم ازلية غير ذات واجب الوجود وعلمه الّذي هو نفس ذاته.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « فالله ـ سبحانه وتعالى ـ عالم بجميع الحوادث الجزئية ... إلى آخره : » لا شبهة في تحقيق هذا العلم لكن لا ينحصر علمه ـ تعالى ـ في ذلك ، بل له علم آخر حادث وهو الّذي يعبّر عنه عند الأشعري بتعلّق العلم القديم ، وانكار الانكشاف الحادث حين الايجاد العيني كفر! ؛ انتهى.

وغير خفي بأنّ الكفر إنّما هو انكار أصل الانكشاف ، وأمّا انكار الانكشاف الحادث فليس كفرا ، بل القول به كفر شرعي وعقلي ـ كما صرّح به جماعة من أهل التحقيق ـ.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « لم يتصف الزمان مقيسا إليه ـ تعالى ـ بالمضي والاستقبال والحضور ـ ... إلى آخره» : لا خفاء في أنّ الزمان لم يتصف بالمضيّ ومقابليه مقيسا إلى ذات واجب الوجود وصفاته الحقيقية ، وأمّا الاتصاف بها باعتبار الأحوال الحادثة والصفات الاعتبارية الحادثة فهو متحقّق بلا شبهة ـ كما دلّ عليه الكتاب العزيز ـ ؛ انتهى.

وما ذكره من جواز اتصافه ـ تعالى ـ بالمضيّ واخويه باعتبار الأفعال الحادثة والصفات الاعتبارية الحادثة ، قد عرفت جلية الحال فيه.

ثمّ قال في تلو قولنا في الكلام المذكور : « فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له ـ تعالى ـ ... إلى آخره » : هذا إنّما يصحّ في العلم المقدّم على الايجاد العيني لا في العلم بذوات الحادثات باعتبار وجودها العيني ، فانّه في هذا العلم يتحقّق كان وكائن وسيكون ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ العلم المقدّم على الايجاد العيني قد يطلق ويراد به ذاته ـ تعالى ـ بذاته من حيث انّه مبدأ الانكشاف ومناطه ، وقد يطلق ويراد به نفس الانكشاف وهو العلم بذوات الحادثات أيضا ، فانّ المراد من العلم بذوات الحادثات الّذي يتحقّق فيه كان وسيكون نفس الانكشاف ، فهو باطل لتحقّقه في مرتبة ذاته ؛ وإن أراد به نفس المعلوم فهو حقّ ولا نزاع لأحد فيه.

ثمّ قال بعد قولنا في الكلام المذكور : « بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ... إلى آخره » : لمّا كان كلّ منها حاضرا في وقته ولا يكون حاضرا في الوقت المقدّم على ذلك ولا في الوقت المؤخّر عنه كان علمه ـ تعالى ـ بذوات الجزئيات الخاصّة حال كونها ملحوظة مع الوجود العيني واحكامها الواقعة في أزمنتها من حيث دخول الزمان بأوصافه الثلاثة فيها. ففي قوله : «ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات » بحث لا خفاء فيه ؛ وهو : انّك عرفت انّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات العينية إنّما هو من حيث دخول الزمان فيها بحسب الأوصاف الثلاثة ، وكون هذا العلم ثابتا مستمرّا غير متغير يستلزم نفي هذه الحيثية ، فلا يكون ثابتا غير متغير ، بل يكون متغيرا بحسب الوجود الخارجي والحضور قطعا. نعم! ، كون واجب الوجود بحيث يحضر عنده جميع الجزئيات الخاصّة كلّ في وقته لا تغيّر فيه ، لكن هذا ليس عبارة عن العلم الحدوثي الّذي هو عبارة عن الحاضر الحادث في وقت وجوده العيني وان كان مستلزما له ، وعبارة الفلاسفة تقتضي نفي الحضور الحادث الزماني ؛ فهذا التأويل لا يناسب مقتضى عبارتهم ؛ انتهى.

وحاصل كلامه هنا : إن اريد بقولهم : « بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ... إلى آخره » عدم التغير في الحضورات الحادثة الزمانية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، ففيه : انّ علمه ـ تعالى ـ بها انّما هو من حيث دخول الزمان فيها بحسب الأوصاف الثلاثة ، وهو لا محالة يستلزم تغير الحضورات الزمانية ؛ وإن اريد عدم التغيّر في كونه ـ تعالى ـ بحيث يحضر عنده الجزئيات كلّ في وقته ـ لا عدم التغير في الحضورات الزمانية ـ ، ففيه : انّ عدم التغير في كونه بحيث يحضر عنده الجزئيات كلّ في وقته ليس عدم التغيّر في علمه بالجزئيات ، إذ الكون المذكور ليس عبارة عن العلم الحدوثي التفصيلي بالجزئيات وإن كان هذا العلم الحدوثي لازما للعلم الّذي لا تغير فيه ـ أعني : كونه تعالى بحيث يحضر عنده الجزئيات كلّ في وقته ـ.

ثمّ صرّح بأنّ تأويل ما ذكره الحكماء من كون الجزئيات حاضرة عنده ـ تعالى ـ كلّ في وقته ومن عدم التغيّر بالمعنى الثاني ـ أي : بكونه تعالى بحيث يحضر عنده كلّ في وقته من غير تغيّر فيه لا بعدم التغيّر في الحضورات الحادثة الزمانية ـ لا يناسب مقتضى عباراتهم ، فانّ هذا التأويل إنّما هو بناء على تسليم التغيّر الحدوثي ، وهم مصرّحون بنفي العلم الحدوثي المتغير ، وعباراتهم صريحة في نفي التغيّر في الحضورات الحادثة الزمانية. فانّ تصريحهم بنفي التغيّر في علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات يقتضي نفي التغير في الحضورات الزمانية ، فليس كلامهم مجملا حتّى يقبل التأويل المذكور ؛ هذا حاصل كلامه.

واندفاعه ظاهر عليك بعد الاحاطة بما تقدّم ، فانّ علمه ـ تعالى ـ بذوات الجزئيات بمعنى الانكشاف لا تغير فيه أصلا ـ لما عرفت مرارا ـ ، وبمعنى المعلوم متغير إلاّ انّه غير محلّ النزاع. فالحضورات الّتي صرّح بثبوت التغيّر فيها إن كان مراده منها هو الانكشاف الثابتة للواجب ـ سبحانه ـ ، فلا نسلّم كونها متغيرة ولا حادثة ولا زمانية ؛ وإن كان مراده منها هو المعلومات الحاضرة ، فكونها متغيرة مسلّم ، إلاّ انّه غير قادح في مطلوبنا.

وبذلك ظهر اندفاع ما أورده من البحث الّذي لا خفاء فيه على قولهم بكون علمه بالجزئيات ثابتا مستمرّا غير متغير.

وظهر أيضا انّ مراد الحكماء من عدم التغير في علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات هو عدم التغيّر في انكشاف جميع الأشياء الزمانية الحادثة عنده ، ولم يقل أحد منهم بثبوت الانكشاف الحادث الزماني له ـ تعالى ـ ، ولم يثبت أحد منهم علما حادثا له ـ تعالى ـ كما يظهر من كلام هذا العلاّمة ، فانّ في كلامه مواضع يدلّ على أنّ للواجب ـ سبحانه ـ علمين : أحدهما قديم ثابت ، والاخر حادث متغير. وقد صرّح بذلك في كلامه المتقدّم أيضا ، وفساده اظهر من أن يخفى على أحد.

ثمّ قال : وخلاصة ما حصل من الأبحاث المذكورة انّ علم واجب الوجود الإجمالي الّذي هو عين الذات يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات وأحكامها كما يعلم به جميع الصور الكلّية ولا دخل للزمان فيه ولا تغيّر فيه أصلا ـ كما لا يخفى ـ. وأمّا العلم التفصيلى الّذي لا تفصيل بعده هو عين الموجودات العينية عند المحقّق الطوسي ، ويعبر عنه عند البعض بتعلّق العلم القديم وعند البعض بالرؤية العينية ، فهو انّما يكون باعتبار الزمان. وفيه تغيّر ما بحيث لا يوجب نقصا ، فانّ ذلك التغيّر ليس في العلم بالذات ، بل إنّما يكون في العلوم من حيث هي معلومات. والحاصل : انّ التغيّر ليس أوّلا وبالذات في العلم التفصيلي ، بل إنّما يكون هذا التغيّر في العلوم باعتبار انّ تلك العلوم معلومات ، فالتغير بالحقيقة وبالذات إنّما هو في المعلومات وفي العلوم انّما يكون بالعرض وبتبعية المعلومات ، فهذا التغيّر من لوازم عدم التغيّر في العلم القديم ، لأنّ الواجب ـ تعالى ـ يعلم بهذا العلم القديم جميع الجزئيات المتغيّرة على ما هي عليه. وهذا العلم عبارة عن كونه ـ تعالى ـ بحيث يصدر عنه جميعها منكشفة عنده وصدور تلك الجزئيات المتغيّرة عنه ـ تعالى ـ على وجه كونها متغيرة لازم لهذا العلم الغير المتغير، وهو المقتضي لحدوث المتغيّرات على الوجه الّذي وقعت ، لأنّه اقتضى تغيّر المتغيّرات وتجدّدها في أوقات وجوداتها المختلفة بحسب المصالح وتأدية الأسباب المؤدّية إليها ، وكان علمه التفصيلي بها عين وجوداتها المتجددة المستلزمة لتجدّد ذلك العلم الّذي هو عينها. فهذا التغيّر من لوازم عدم تغيّر اقتضاء هذا العلم الغير المتغير ، إذ لو لم يتغيّر هذا العلم ـ وذلك لعدم تغيّر المعلومات ـ لزم التغيّر في علمه القديم المقتضي لتغير تلك المعلومات ، إذ ما لم يجز تغيّر العلم القديم لم يجز تغيّر مقتضاه ، وهو هذا التغيّر ـ أعني : تغير المعلومات ـ. فلو جاز تغيره لجاز عدم وقوع هذا التغيّر الواقع. فظهر انّ هذا التغيّر واقع لعدم ذلك التغيّر ـ أي : امتناع التجدّد والتغير في علمه القديم هو المستلزم لتغير علمه بالمتغيرات ـ ، وهذا أمر غريب! ؛ انتهى كلامه مع توضيحه.

وغير خفي بأنّ القول باستناد التغيرات الحادثة إلى العلم القديم إذا كان اجماليا لا تفصيليا ـ كما هو زعم هذا العلاّمة ـ مشكل جدّا ، إذ لا امتياز في العلم الاجمالي ، فكيف يستند التغيرات والتجددات إليه؟!.

ثمّ إنّك قد عرفت انّ مذهب العلاّمة الخفري في العلم هو انّ للواجب ـ سبحانه ـ علمين :

أحدهما: العلم الاجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ـ وهو كون الذات بحيث يصدر عنه الجميع معلومة له ـ ؛ وثانيهما : العلم التفصيلي الّذي هو عين وجودات الأشياء. وتطبيق كلامه هنا على هذا المذهب إنّما هو بأن يحمل قوله : « يعلم به جميع خصوصيات الجزئيات » على أنّ المراد منه انّه يعلم منه خصوصيات الجزئيات عند وجوداتها العينية لا في الأزل ، إذ لو حمل على أنّ مراده انّه يعلم من ذاته خصوصيات الجزئيات في الأزل لكان اعترافا بتحقّق العلم التفصيلي القديم المتحقّق له ـ تعالى ـ قبل ايجاد الأشياء ، وهو متحاش عنه ـ على ما ظهر من كلماته السابقة ـ. وحينئذ فالمراد من قوله : « ولا دخل للزمان فيه » : انّه لا دخل للزمان في العلم الاجمالي الّذي هو نفس ذاته لا في ما ينشأ ويصدر منه من انكشاف خصوصيات الجزئيات وحضوراتها ، لما صرّح في كلامه السابق من أنّ حضورات الجزئيات العينية متعلّقة بالزمان وللزمان مدخلية فيها.

ثمّ انّه لا تصريح في كلماته بأنّ العلم بمعنى الانكشاف هل هو متحقّق له ـ سبحانه ـ أم لا ؛ وعلى فرض تحقّقه له ـ تعالى ـ بأيّ طريق يكون متحقّقا له ـ أي : هل يكون أزليا ثابتا أم حادثا متغيرا ـ فانّ لم يكن قائلا بثبوته له ـ تعالى ـ أصلا حتّى يكون العلم عنده منحصرا بالعلم الاجمالي بمعنى مجرّد ذاته وبالعلم التفصيلي بمعنى مجرّد وجودات الأشياء فهو كفر وزندقة يدفعه قاطع البرهان ويتبرّأ عنه أهل الملل والاديان ؛ وإن كان قائلا به إلا انّه قال بحدوثه بحدوث الأشياء العينية الّتي هي العلوم التفصيلية فهو أيضا باطل ـ للزوم جهله وفقده صفة كمالية في مرتبة ذاته ـ. وهذا هو الظاهر من كلماته بعد ملاحظة السوابق واللواحق والجمع بينهما ، فانّه قسّم العلم إلى العلم الحقيقي الّذي هو الحاضر بالذات أو غير الغائب ـ وهو المناط للانكشاف والمصحح له ، وجعل وجودات الأشياء هو العلم بهذا المعنى. وهذا هو العلم التفصيلي عنده ـ ؛ وإلى العلم بالمعنى الاضافي الّذي هو الانكشاف ؛ وإلى العلم الاجمالي الّذي هو مجرّد ذاته ـ سبحانه ـ وجعل العلم الاجمالي قديما غير متغير والعلم بالمعنيين الآخرين حادثا زمانيا ، إلاّ أنّه جعل التغير الاضافي وزمانيته تابعا لتغير العلم التفصيلي ـ كما هو الظاهر من كلامه هنا ـ. ولو حمل كلامه هنا على أنّ العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته يعلم به خصوصيات الجزئيات في الأزل من غير مدخلية للزمان فيه فيكون رجوعا إلى الحقّ الصريح من كون انكشاف الأشياء مفصّلة عنده قديما سابقا على الايجاد وعدم كون هذا الانكشاف زمانيا، وكون العلم الحقيقي ـ الّذي هو مناط الانكشاف ـ مجرّد ذاته الحقّة دون وجودات الأشياء.

هذا هو الحقّ الّذي اخترناه من كون ذاته مناط الانكشاف التفصيلي ومنشأه وثبوت الانكشاف التفصيلي له ـ تعالى ـ في الأزل من غير كونه زمانيا ، وكون الأشياء بجزئياتها وخصوصياتها منكشفة عنده ـ تعالى ـ أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد.

والحقّ انّ حمل كلامه هنا على هذا المعنى لا يناسب أكثر كلماته السابقة ، بل هو خلاف ما اشتهر من مذهبه في العلم ، بل لا يناسب لكلامه هنا أيضا ؛ لأنّه صرّح هنا بلزوم التغيّر في العلم التفصيلي الّذي لا تفصيل بعده. فان كان مراده من هذا العلم التفصيلي هو مجرّد وجودات الأشياء دون الانكشاف فيلزم عدم ثبوت انكشاف تفصيلي له ـ تعالى ـ قبل ايجاد الأشياء ؛ وإن كان مراده منه الانكشاف فيلزم كونه زمانيا وحادثا وإن كان تابعا لتغير المعلومات ـ كما صرّح به ـ. وهذا هو الظاهر من كلماته ، ولهذا أورد عليه بعض الأفاضل بأنّ علمه القديم إنّما يقتضي تجدّد المتجدّدات فيما بينها لا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، وعلمه التفصيلى إنّما هو عين المتجدّدات من حيث انتسابها إليه وحضورها وانكشافها لديه وهي من تلك الحيثية غير متجدّدة أصلا. فالجزئيات المتجدّدة مع كونها متجدّدة ومتغيرة وكون علمه ـ تعالى ـ بها عين وجوداتها المتغيّرة لا يستلزم تغير علمه ـ تعالى ـ بها من حيث هو علم بها ؛ هذا.

وأمّا المطلب الثاني فهو كما عرفت انّ السبب في عدم تغيّر علمه ـ سبحانه ـ أحد الوجهين :

أوّلهما : كون ذاته علّة لجميع الأشياء ومقتضية لها اقتضاء تامّا ، والعلم بالعلّة يوجب العلم بمعلولاتها مفصّلة على نحو واحد من دون تغيّر وتجدّد.

وثانيهما : كون الأشياء بوجوداتها العينية حاضرة عنده ـ سبحانه ـ في الأزل وإن لم يوجد بعد ـ لإحاطته بالزمان وكون جميع الاجزاء عنده متساوية في الحضور وكون الزمان باسره عنده واحدا في معية الوجود ـ. وهذان الوجهان كما يصحّحان كون علمه بالمتجدّدات ثابتا غير متغير يصحّحان حضور المعدومات عنده ـ كما مرّ ـ ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ إذا كان علّة تامّة للجزئيات في الأزل وكان العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول وكان حضور العلّة أقوى من حضور المعلول في باب انكشاف المعلول أو كانت اجزاء الزمان متساوية بالنسبة إليه وكان محيطا بالجميع متعاليا عنه ولم يكن داخلا تحت الزمان كان الجميع منكشفا عنده في الأزل والأبد على نهج واحد ، فالأشياء بأسرها في حال عدمها تكون حاضرة عنده يصحّ علمه بها مع كونها معدومة ولا يتجدّد علمه بها بتجدّدها وتغيرها ، فصحّ عدم التغيّر في علمه.

وأمّا الوجهان الآخران لتصحيح عدم التغيّر في علمه ـ تعالى ، أعني : كون علمه سبحانه حصوليا صوريا حاصلا من الأسباب والعلل المؤدّية إلى الجزئيات ، إذ كونه عالما بالجزئيات قبل ايجادها على سبيل الإجمال والعلم الاجمالي لكونه بسيطا وحدانيا لا تغير ولا تجدّد فيه ـ فقد عرفت فسادهما.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ في تصحيح عدم التغيّر في ذاته وفي صفاته الحقيقية مذاهب :

الأوّل : ما اخترناه ؛

والثاني : ما اختاره العلاّمة الخفري ـ ; ـ من عدم التغيّر في العلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ أعني : مجرّد ذاته ـ وتسليم التغيّر في الانكشاف والحضورات الزمانية ونفي البأس عنه ؛

والثالث : القول بأنّ العلم الكمالي منحصر بالعلم الاجمالي بالاحتمال الأوّل بمعنى انّ ذاته بمنزلة المجمل للأشياء والعلم بذاته بمنزلة الانكشاف الاجمالي ـ أي : المعقول البسيط بالنسبة إلى الأشياء ـ ؛

والرابع : كون علمه ـ تعالى ـ حصوليا صوريا ؛

وقد ذهب إلى كلّ من هذه المذاهب جماعة ، ووقع في كلام بعضهم الاشتباه من أنّ مختاره ما ذا من المذاهب المذكورة. وقد نسب القول بنفي العلم بالجزئيات من حيث انّها جزئيات إلى القائلين بالعلم الحصولي أيضا. فلا بدّ لنا من الاشارة إلى تحقيق الحال في هذه الأمور.

فنقول : ما اخترناه من تصحيح عدم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ من الوجهين قد اختار كلاّ منهما جماعة ؛ امّا الوجه الّذي هو القول بكون الأشياء حاضرة له ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية في الأزل وإن لم توجد بعد ، فقد اختاره جماعة من محقّقي المتأخّرين وكلّ من صحّح علمه ـ تعالى ـ بالمعدومات بهذا الوجه قد صحّح عدم تغيّر علمه ـ تعالى ـ أيضا به. وممّن صرّح بهذا الوجه المحقّق الدواني في بعض كلماته حيث قال : جميع اجزاء الزمان بما فيها حاضرة عنده ـ تعالى ـ دائما. وأمّا الوجه الآخر ـ أعني : القول بكون انكشاف العلّة مستلزما لانكشاف المعلول بخصوصياته ـ فقد اختاره أيضا جماعة ؛ وإلى هذا الوجه يشير ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : انّ العلم بالأشخاص الجسمانية من حيث انّها اشخاص معينة يتصوّر من وجهين :

أحدهما : من جهة الإحساس بآلة متجزّئة ، وذلك العلم هو العلم بالإحساس الّذي لا يكون إلاّ انفعاليا مستفادا من وجود المعلوم. ويعبر عن ذلك العلم بالعلم الجزئي على الوجه الجزئي ؛

وثانيهما : من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى الاشخاص الجسمانية. وهذا العلم يعبّر عنه بالعقل التامّ الغير الزماني وبالعلم الجزئي على الوجه الكلّي ، إمّا لأنّه كتعقّل الطبائع الكلّية في الثبات على حالة واحدة ، أو لأنّ المراد من الوجه الكلّي هو انّ الواجب ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بالكلّية ـ أي : بجميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء منها ، لا انّه يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ، فلا يتصوّر في عدم علمه تنقّل من معلوم إلى معلوم آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ. وكما انّ القسم الأوّل لا يكون إلاّ انفعاليا كذلك القسم الثاني لا يكون إلاّ فعليا ، فالمعلوم في القسم الثاني مرتّب على العلم وفي القسم الأوّل بالعكس ، ولأجل ذلك لا يكون القسم الثاني يتغيّر بتغير المعلوم ولا يتجدّد بتجدّده أصلا ، والمتغير والمتجدّد والزماني انّما هو المعلوم دون العلم. وهذا هو العلم التامّ الّذي أتم العلوم كلّها وأكملها والعلم التامّ بالعلّة التامّة إنّما يوجب العلم التامّ بالمعلول ، لا أنّه يوجب الإحساس بالمعلول ، بل الإحساس قد يكون مستحيلا كما بالنظر إلى الواجب ـ تعالى ـ ، لانّ الإحساس لا يكون إلاّ بالقوة الهيولانية ـ كالحواس الجسمانية ـ وهو نقص على الواجب ـ تعالى ـ. وهذان القسمان من العلم وإن كانا نحوين من العلم إلاّ أنّ المعلوم بهذين العلمين ليس إلاّ أمرا واحدا بعينه ، فالأشخاص الجسمانية الّتي نعلمها علما احساسيا جزئيا يعلمها الواجب علما تعقّليا من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل ، والعلم الاحساسي يكون متغيرا ومتجدّدا بتغير المعلوم وتجدّده بخلاف العلم التعقّلى ؛ انتهى.

فان قيل : العلم بالأشياء إذا كان حاصلا من العلم بعلّتها لم يمكن أن يكون الأشياء معلومة بهذا العلم لوجوداتها العينية وعلى الوجه الجزئى ، لأنّ العلم الحاصل بالمعلول من العلّة إنّما يتصوّر بأن يعلم انّ معلول هذه العلّة يجب أن يكون كذا وكذا من الأوصاف ، وهذه الأوصاف لا تكون إلاّ كلّية ، والأوصاف المخصّصة إذا كانت كلّية لا تفيد الجزئية وإن بلغت إلى غير النهاية.

والجواب : انّ العلم بالعلّة إذا كان حصوليا صوريا حاصلا من المخصّصات الكلّية كان العلم المستفاد منها بعلّته أيضا كذلك ؛ وأمّا إذا كان العلم بالعلّة حضوريا اشراقيا حاصلا من حضور ذات العلّة عند العاقل كان ذلك علما بلوازمها ومقتضياتها الّتي هي من سنخ ذاتها على سبيل الحضور والانكشاف أيضا بخصوصياتها المعينة وأوقاتها المخصوصة ، فواجب الوجود بالذات لمّا كانت ذاته حاضرة عند ذاته وكان عالما بذاته بالعلم الحضوري الانكشافي كان جميع لوازمه ومقتضياته الّتي هي من سنخ ذاته حاضرة منكشفة لديه بخصوصياتها ولوازمها وعوارضها وأوقاتها من دون احتياج إلى ارتسام صورها ، ويعلم انّ كلاّ منها يكون في أيّ وقت موجودا عينيا وفي أيّ زمان يكون معدوما ، فتكون وجوداتها العينية أيضا منكشفة عنده ؛ فلا يعزب عنه شيء من انحاء ما من شأنه المعلومية عن علمه ـ سبحانه ـ.

على أنّك قد عرفت انّ الوجه الأوّل ـ أعني : كون جميع الأشياء بوجوداتها العينية حاضرة عنده سبحانه في الأزل ـ وإن لم يوجد بعد متحقّق في الواقع ونفس الأمر ، وبه يثبت علمه الحضوري الاشراقي بجميع لوازمه بخصوصياته المعينة ، وتكون الموجودات بأسرها ـ حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها ، كلّيها وجزئيها إلى اقصى الوجود ـ ظاهرة لديه منكشفة بين يديه وإن قطع النظر عن هذا الوجه.

ثمّ كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم ظاهر في انّ السبب في عدم تغيّر علمه ـ تعالى ـ هو ما اخترناه من أحد الوجهين ، فانّه قال : « انّ الحكماء الظاهريين قالوا : إنّه ـ تعالى ـ عالم بجميع الجزئيات على الوجه الكلّي لا على الوجه الجزئي ؛ فقيل لهم : لا يمكن أن تنكروا وجود الجزئيات على الوجوه الجزئية المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة يستند إلى الباري الّذي هو مبدئه وعلّته الاولى ، وعندكم انّ العلم التامّ بالعلّة التامّة يستلزم العلم بمعلولها وإنّ علم الباري ـ تعالى ـ أتمّ العلوم ، فانتم بين أن تعترفوا بعلمه بالجزئيات على الوجوه الجزئية المتغيّرة وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ، إذ من الممتنع أن يستثنى من الاحكام الكلّية العقلية بعض جزئياتها الداخلة فيها كما يستثنى من الاحكام النقلية بعضها ـ كتعارض الأدلّة السمعية ـ (5).

والحاصل : انّه وقع التدافع بين مقدّمتين وصرّحوا بها ؛

إحداهما : انّ العلم التامّ بالعلّة مستلزم للعلم بالمعلول ؛

وثانيهما : نفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على النحو الجزئى مع كونه ـ تعالى ـ علة لها باعترافهم.

ثمّ ذكر تحقيقا حاصله : انّ تكثّر الأشياء إمّا أن يكون بحسب حقائقها ؛ وإمّا أن يكون بحسب تعدّدها مع اشتراكها في حقيقة واحدة ، والكثرة المتفقة الحقيقية إمّا أن تكون آحادها غير قارّة ـ أي : لا توجد معا ـ أو تكون غير قارة توجد معا ؛ والأوّل من هذين القسمين لا يمكن أن يوجد إلاّ مع زمان ، والثاني لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكان أو مع مكان ، فالطبائع المعقولة إذا تحصّلت في اشخاص كثيرة تكون الأسباب الأولى لتعيين اشخاصها وتشخصها هي إمّا الزمان ـ كما للحركات ـ أو المكان ـ كما في الأجسام ـ أو كلاهما ـ كما في الأشخاص المتغيّرة المتكثّرة بحسب نوع من الانواع ـ ؛ وما لا يكون زمانيا ولا مكانيا فلا يتعلّق بهما ـ أي : بالزمان والمكان ـ ، ويقبح القول باستناده إليهما. كما إذا قيل : الانسان من حيث الطبيعة الانسانية متى يوجد ، أو اين يوجد أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون وفي أيّ بلدة يكون ، بل إذا تعين شخص منها كهذا الانسان أو هذه الخمسة والعشرة فقد يتعلّق بهما بسبب تشخّصه.

ثمّ أورد كلاما لبيان علمه بالجزئيات من حيث انّها جزئيات مع عدم لزوم التغيّر في علمنا.

هذا كلامه مع توضيحه.

واعلم! ، انّه إذا كان المدرك متعلّقا بزمان أو مكان فانّما يكون الادراك منه بآلة جسمانية لا غير، كالحواس الظاهرة والباطنة فانّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ويحكم بوجودها وبفوت ما يكون وجوده في زمان غير ذلك الزمان ويحكم بعدمه ؛ بل نقول : انّه كان أو يكون وليس الآن. ويدرك المتكثّرات الّتي يمكن أن يشيرإليها ويحكم عليها بانّها في أيّ جهة منه وعلى أيّ بعد ومسافة إن بعد عنه. وأمّا المدرك الّذي لا يكون كذلك ويكون ادراكه تامّا فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده أو قبله من المدّة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ، بل بدّل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال ـ أي : ليس الماضي موجودا في زمان هو ظرف وجودي في حالة الحكم ـ ، إذ الحال هو زمان وجود الحاكم في حال الحكم ـ يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معين لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الازمنة الّتي تكون قبله أو بعده ، لأنّ الحاكم إذا لم يكن وجوده مقارنا لزمان من الأزمنة ولا واقعا فيه لم يصحّ منه الحكم بكون الماضي غير موجود في زمان هو زمان وجوده ، لكن يحكم هو بدله بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان ، فيحكم بأنّ الماضي الّذي هو أيضا من الموجودات في زمان معيّن لا يكون موجودا في زمان الحال الّذي هو زمان بعد ذلك الزمان ، وبأنّ المستقبل هو موجود أيضا في زمان معيّن لا يكون موجودا في زمان الحال الّذي هو زمان قبل ذلك الزمان. ودخول هذا الحكم تحت الحكم الكلّي المذكور أوّلا ظاهر إذا كان المراد بالماضي والمستقبل الشيء الّذي يمضي زمانه والشيء الّذي سيأتى زمانه ؛ وأمّا إذا كان المراد بهما نفس الزمانين فالظاهر دخوله تحته وترتّبه عليه أيضا ، إذ كلّ منهما زمان لوجود نفسه ـ كما تقرّر في موضعه ـ.

قيل : كان الاظهر أن يقول المحقّق : « ويحكم هو بدله بأنّ ما هو موجود في زمان يكون ماضيا بالنسبة إلى زمان آخر بعده ليس موجودا في ذلك الزمان المسمّى بالحال » ليطابق البدل ما هو بدل منه صريحا.

ثمّ انّ المدرك الغير الزماني يدرك في حكمه بأنّ الماضي لا يكون موجودا في الحال أنّ الماضي إنّما هو ماض بالنسبة إلى موجود واقع بعد ذلك الزمان الماضي ، وكذا الأمر في الحال فيحكم  بأنّ ما هو ماض بالنسبة إلى موجود واقع في زمان بعد زمان ذلك الماضي ليس موجودا في ذلك الزمان البعد الّذي هو حال بالنسبة إلى ما هو موجود ، فظهر انّه لا يعزب عن علمه كون الماضي ماضيا بالنسبة إلى ما هو ماض بالقياس إليه ولا كون الحال حالا بالنسبة إلى ما هو حال بالقياس إليه ولا يكون ما هو ماض غائبا عمّا هو حال.

ثمّ قال : ويكون ـ أي : المدرك الّذي لا يكون كذلك ، أي : لا يكون زمانيا ـ عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته وكم الابعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم ، ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم أو حاضر أو غائب ، وذلك لان « الآن » عبارة عن الزمان المقارن لوجود الحكم حالة الحكم وذلك فرع كون الحاكم زمانيا ، و « هناك » اشارة إلى مكان يكون بعيدا عن مكان الحاكم حالة الحكم كما انّ « هاهنا » اشارة إلى مكان قريب لمكان الحاكم ، وكلّ ذلك يقتضي كون الحاكم مكانيا. بل الحكم بأنّ الشيء موجود هناك هو الحكم بأنّه موجود في مكان معروض البعد عن مكان آخر ، وعدم حكمه بأنّه حاضر أو غائب لاستلزام حكمه بالحضور والعينيّة كون الحكم زمانيا أو مكانيا ، لأنّ المراد بالحضور والغيبة هما الحضور الزمانيان أو المكانيان بالنسبة إلى الحاكم. فظهر انّ الحكم بالموجودية والمعدومية في الآن أو هناك وبالحضور والغيبة لا ينفكّ عن الزمان والمكان، فلا يكون ثابتا للمدرك الّذي كلامنا فيه ، لأنّه ليس بزماني ولا مكاني ، بل نسبة جميع الازمنة والامكنة إليه نسبة واحدة. وإنّما اختصّ بالآن أو بهذا المكان أو ذلك المكان أو بالحضور أو الغيبة وبأنّ هذا الجسم قدامي أو خلفي أو تحتي أو فوقي من وقع وجوده في زمان معيّن ومكان معيّن ؛ وعلمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات اتمّ العلوم وأكملها. وهذا هو المعبر بالعلم بالجزئيات على الوجه الكلّي ؛ انتهى.

قيل : العلم بالجزئيات بحيث لا يختصّ بالآن أو المكان أو بالحضور أو الغيبة ـ وامثال ذلك ـ هو معنى العلم بها على الوجه الكلّي ، فانّ العلم بالكلّي يكون من هذا القبيل ـ أعني : غير مختصّ بشيء من الأمور المذكورة ـ.

وقيل : التعبير عنه بالكلّي لعدم خروج شيء منه ـ أي : يعلم الجزئيات بالكلّية ـ.

قيل : وإلى هذا الاصطلاح ـ أي : اصطلاح تغيير العلم بالجزئيات بوجه لا يكون فيه كان وكائن وسيكون بالعلم الجزئي على الوجه الكلّي بمعنى عدم خروج شيء منه ـ اشار المحقّق في كتاب التجريد بقوله : « ذاته يعلم الجزئيات على وجه كلّي »(6)، أي : يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

قال بعض الأفاضل في شرح ما نقلناه من المحقّق من الكلام لبيان علمه بالجزئيات من غير لزوم تغيّر فيه : اعلم! ، أنّ تعلّق شيء بالزمان يكون على وجوه :

أحدها : أن يكون تجدّد أوضاع الفلك الراسم بحركته للزمان واقعا بالنسبة إلى ذات هذا الشيء سواء كان حدوثه ووجوده مشروطا بقطعة معينة من الزمان أو لا ، وبهذا الوجه يكون جميع الأجسام والجسمانيات ما عدا الفلك الراسم زمانية ؛

وثانيها : أن يكون التجدّد الراسم للزمان واقعا في أوضاعه ، وبهذا المعنى يكون الفلك الراسم زمانيا أيضا ؛

وثالثها : أن يكون حدوثه ووجوده متعلّقا بجزء معيّن من الزمان سواء كان تجدّد اوضاع الفلك الراسم بالقياس إلى ذاته أو لا ، وبهذا الوجه تكون جميع الحوادث ـ مادّية أو مجرّدة ـ زمانية. وتعلّق الشيء بالمكان إمّا بأن يكون أوضاع الأمكنة وجهاتها واقعا بالنسبة إلى ذاته ، أو بأن يكون وجوده لا بدّ أن يقع في المكان. ولا يتصور شيء يكون وجوده وحدوثه مشروطا بمكان من الامكنة إلاّ بالعرض ، فانّ المكان من اللوازم المتأخّرة من وجود الجسم بخلاف الزمان ، فانّه علّة معدّة لوجود الحوادث. فجميع الأجسام والجسمانيات ـ حادثة أو قديمة ـ تكون مكانية بالمعنيين ؛ بخلاف جسم كرة العالم الجسماني من حيث هو مجموع ، فانّه لا يتصوّر اختلاف جهات الأمكنة والأوضاع بالنسبة إليه ، فهو مكاني بالمعنى الثاني فقط ، وليس شيء من المجرّدات حادثة أو قديمة مكانيا بشيء من المعنيين.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انّ المدرك الزماني والمكاني إنّما يكون ادراكه بالآلة الجسمانية لأنّه من حيث هو زماني ومكاني لا يمكن أن يكون إلاّ جسما ، والجسم من حيث هو جسم ليس من شأنه الادراك وإلاّ لكان كلّ جسم مدركا ، بل لا بدّ أن تكون له قوّة من شأنها الادراك وتكون تلك القوّة لا محالة قائمة به ، وهذه القوّة هو المراد بالآلة الجسمانية. وإنّما يجب أن يكون المدرك بآلة جسمانية لا يدرك إلاّ ما هو حاضر في زمانه أو مكانه ، لأنّ المدرك لمّا كان ذا وضع ومكان وجهة فكذا مدركه لا بدّ أن يكون كذلك ، والزمانيات والكائنات مختلفة في الأمكنة والجهات بحسب القرب والبعد ، والادراك عبارة عن حصول المدرك عند المدرك ، فلا يمكن أن يكون جسم من الأجسام في أيّ مكان كان وفي أيّ جهة وعلى أيّ وضع وفي أيّ زمان حاضرا لجسم آخر كذلك بدون مناسبة خاصّة وقرب مخصوص ووضع معيّن لتحقّق الحضور الّذي به يتحقّق الادراك ؛ وذلك ظاهر ؛ وأمّا المدرك إذا لم يكن زمانيا ولا مكانيا بل متعاليا عن الزمان والمكان لا يكون اختلاف الأوضاع والأمكنة والجهات والأزمنة الواقعة في الزمانيات والكائنات كائنا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، بل يكون كائنا فيما بينها ونسبة بعضها إلى بعض ، فلا يتصوّر لشيء عنها قرب بالنسبة إليه أو بعد ؛ فكل منها حاضر عنده غير غائب عنه بوجه من الوجوه. ولذلك كان مدركاتها دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة بلا تقديم وتأخير ويكون قرب بعضها إلى بعض وبعده عنه وكذا تقدّمه عليه وتأخّره عنه أيضا مدركا له ؛ انتهى.

وأنت إذا احطّت بكلام هذا المحقّق فلا أظنّك أن تشكّ في أنّ مراده من هذا الكلام هو ما اخترناه وقررناه ؛ فانّ قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في ايّ زمان من الأزمنة ـ ... إلى آخره ـ » صريح في أنّ هذا العلم ثابت له دائما قبل ايجاد الحوادث وبعده ولا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور ، لأنّه أورد هذا الكلام لتصحيح علمه ـ تعالى ـ بالأشياء الجزئية على سبيل الجزئية وردّ ما ذكره الظاهريون من الحكماء من قولهم بعلمه بالجزئيات على سبيل الكلّية لا الجزئية ولو كان العلم الصوري مصحّحا لعلمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات فالحكماء قائلون به ، فلم يرد عليهم ايراد حتّى يحتاج إلى ذكر هذا من عند نفسه ، بل كان له أن يوجّه قولهم بذلك ولا ينسبهم إلى الظاهرية.

ولا يقال : ما ذكره توجيه لكلامهم! ، لأنّه قال أوّلا : انّهم قالوا انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ، ومع ذلك ذكروا انّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، فحصل من ذلك التدافع في كلامهم ، ثمّ أورد هذا الكلام ـ الّذي مبناه على العلم الصوري ـ لتوجيه كلامهم ، فبين انّ العلم الحصولي يستلزم حضور جميع الأشياء له ـ تعالى ـ في الشهود العلمي بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها لا كلّيا ولا جزئيا ؛ فانّ العلم الصوري وإن لم يستلزم حضور جميع الأشياء له ـ تعالى ـ دائما في الشهود العيني إلاّ أنّه يستلزم حضور صورها وأمثلتها جميعا بحيث لا يخرج عن علمه شيء منها ، فتكون جميعها حاضرة عنده في الشهود العلمي. وبعد بيان ذلك صرّح بأنّ غرض الحكماء حينئذ من قولهم : « انّه عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي » : انّه يعلم جميع الجزئيات بالكلّية بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.

لأنّا نقول : سوق كلامه يدلّ على أنّ هذا الكلام ممّا لم يقل به الحكماء ، ولذا نسبهم إلى الظاهرية.

وأيضا كيف يمكن أن يجعل ما ذكره توجيها لمذهب الحصوليين مع أنّ العلم الحصولي الصوري القائم بالمجرّد لا يكون إلاّ صورة كلّية مجرّدة؟! ، إذ الصورة الجزئية المادّية لا تقوم إلاّ بالآلات الجسمانية مع انّه صرّح في كلامه بأنّه عالم بالجزئيات المادّية من حيث انّها جزئيات ، فلو كان علمه بها صوريا لزم كونه جسمانيا ـ تعالى عنه علوّا كبيرا ـ ؛ فلا يصحّ ما ذكره إلاّ على القول بالعلم الحضوري ، فانّ عند من يقول بأنّ علمه ـ تعالى ـ بالحضور لا يكون ادراك الجزئيات المادّية بالآلات الحسّية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، فيصدق حينئذ إن ادراكها وانكشافها للواجب لا يكون بالآلات الجسمانية ، لأنّه ـ تعالى ـ يعلمها منكشفة بعين وجوداتها العينية ، لتعاليه ـ سبحانه ـ عن أن يدركها به.

قال بعض المشاهير : كلام هذا المحقّق صحيح في نفسه من أوّله إلى آخره ، وهو يوجب كونه ـ تعالى ـ عالما بالجزئيات بالكلّية ـ أي : جميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء منها ، لا انه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويفوت عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ. لكن في تأويل كلام الفلاسفة سيّما المتأخّرين إليه بحث من وجهين ؛ كما لا يخفى عند الرجوع إلى كلامهم.

قيل : الوجهان أوّلهما : انّ الظاهر المتبادر من كلام الحكماء سيّما المتأخّرين انّ الكلّي هذا هو بالمعنى المصطلح ، لأنّ قولهم « بوجه كلّي » لا يساعده أن يحمل على الجميع ، لانّ مفاد هذا اللفظ ليس إلاّ انّ وجه معلومية الجزئيات وجه كلّي تجردي لا جزئي مادّي ، فالحمل على المعنى المذكور بعيد جدّا.

وثانيهما : انّ الحكماء لم يثبتوا العلم بالحضورات الزمانية والجزئيات الجسمانية لاستلزامه التغيّر في العلم ـ كما صرّحوا به ـ ، فكيف يصحّ هذا التوجيه من جانبهم؟!.

وقيل : أوّلهما : انّهم لا يجوّزون التغيّر في العلم التفصيلي ؛

وثانيهما : انّ الشيخ صرّح بأنّه لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها عقلا زمانيا محضا. وهذا الوجه المنقول من كلام الشيخ هو بعينه الوجه الثاني في القول الأوّل ، وحاصله : انّ تصريحاتهم شاهدة بأنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة ليس من حيث انّها متغيّرة ومتبدّلة ، وليس علمه ـ تعالى ـ متغيرا أصلا ، وهذا الحمل يقتضي خلاف ذلك.

ويمكن أن يقال : أحد الوجهين هو كون العلم الحصولي كليا البتة وكثير من كلماتهم مصرّحة بكون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات بصور كلّية منحصرة كلّ منها في فرد ، فلا يمكن بناء عليه أن يقال بعلمه بالجزئي من حيث هو جزئي ، فانّه إذا سلّم انّ الحكماء ليسوا قائلين بالعلم الحضوري الانكشافي يلزم عليهم نفي علمه بالجزئيات من حيث هي جزئيات وبالوجودات العينية من حيث هي وجودات عينية ، وبذلك يتعلّق التكفير بهم ولا ينفعهم توجيه من قبلهم أصلا ؛

وثانيهما : ما ذكر أوّلا على القول الأوّل.

وإذ علمت أنّ كلام هذا المحقّق صريح في انّ العلم ثابتا له دائما ـ سواء كان قبل ايجاد الحوادث أو بعده ـ ثبت انّه لا يمكن أن يكون ذلك عنده بالصور لعدم انطباق كلامه على العلم الصوري ، فيجب أن يكون ذلك عنده بانكشاف ذوات الموجودات منه ـ تعالى ـ دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية ، إذ لا تدريج ولا قبلية ولا بعدية لها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ وإنّما هي فيما بينها ـ كما مرّ غير مرّة ـ.

ومعلوم انّ هذا ليس إلاّ أحد الوجهين اللذين اخترناهما ويمكن تطبيقه على كلّ منهما.

فان قيل : يمكن أن يحمل كلامه على العلم الاجمالي المقدّم على ايجاد العين حتّى يكون مراده من حضور الأشياء عنده دفعة واحدة بلا قبلية ولا بعدية هو الحضور في الشهود العلمي على سبيل الإجمال ، فيكون مذهبه انّ الأشياء الزمانية في الشهود العلمي الاجمالي تكون حاضرة دفعة من دون أن يتصف علمه بها بالتغيّر والآن والمضيّ والاستقبال ، وفي الشهود العلمي التفصيلي تكون حاضرة على ترتيب وجودها في الخارج ويتصف علمه بها حينئذ بالتغيّر والقبلية والبعدية ولا بأس به ، لأنّه تغيّر في الاضافة ـ كما اشار إليه في التجريد بقوله : «وتغيّر الاضافات ممكن » ـ (7).

وممّا يدلّ على ذلك ما ذكره في شرح الرسالة بعد كلامه المنقول : « وامّا العلم بالجزئيات على الوجه الجزئي المذكور ـ أي : على وجه الإحساس بالحواسّ الظاهرة والباطنة ـ فهو إنّما يصحّ لمن يدرك ادراكا حسيا بآلة جسمانية في وقت معيّن ومكان معيّن ، وكما أنّ الباري ـ تعالى ـ يقال انّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ولا يقال انّه ذائق أو شامّ أو لامس لأنّه منزّه عن أن يكون له حواسّ جسمانية ولا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، كذا نفي العلم بالجزئيات المشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه ـ تعالى ـ لا يتسلّم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده ، ولا يوجب ذلك تغيرا في ذاته الوحدانية ولا في صفاته الذاتية ، وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها فقط » (8) ؛ انتهى.

فانّ قوله : « وإنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والاضافات الّتي بينه وبينها » يدلّ على جواز التغيّر في الاضافات الّتي هي الحضورات العينية عنده ، فيكون التغيّر عنده جائزا في العلم التفصيلى ـ أعني : في المعلومات المفصّلة وفي الإنكشافات المتعلّقة بها ـ ، فيكون كلامه راجعا إلى ما اختاره العلاّمة الخفري ـ ; ـ من عدم التغيّر في العلم الاجمالي بمعنى انّ ذاته مبدأ لجميع الموجودات الكائنة والفاسدة كلّية كانت أو جزئية ، فيصدر عنه جميعها منكشفة. وهذا المعنى لا تغيّر فيه أصلا ، إذ كون جميع المتغيرات المحسوسات حاضرة بذواتها عند واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الاعيان لا يقبل التغيّر ، إنّما التغيّر في العلم التفصيلي ـ أعني : المعلومات ـ أو بمعنى حضورها ، وهو تغيّر في النسبة والاضافة لا في الذات ، ولا محذور فيه. وقد ادعى هذا العلاّمة تطبيق الكلام المنقول من شرح الرسالة على ما اختاره.

قلت : حمل كلامه على العلم الاجمالي المختار عند الخفري ـ ; ، أعنى : الاحتمال الثاني ـ باطل؛ أمّا أوّلا : فلأنّ العلم الاجمالي بهذا المعنى إنّما هو كون الذات أزلا وأبدا بحيث لو أوجد شيئا كلّيا أو جزئيا متغيرا أو غير متغير لكان منكشفا عنده ، فلا يكون انكشاف الجميع ثابتا له دفعة أزلا وأبدا ، بل يحدث كلّ انكشاف له في زمان خاصّ. وفي مواضع من الكلام المنقول تصريح بكون انكشاف جميع الأشياء حاصلا له بالفعل دفعة دائما من دون تغيّر وتجدّد ـ مثل قوله : « فانّه يكون محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ... إلى آخره ؛ أو قوله يكون عالما بأنّ كلّ شخص يوجد في أيّ مكان ... إلى آخره ـ ؛ ومع ذلك فكيف يحمل هذا على ذاك؟!. وحمل العلم على الكون المذكور ممّا لا يقبله فهم سقيم فضلا عن فهم قويم ، بل حينئذ يصير كلامه مختلّة كما لا يخفى عند التدبّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم التغيّر في العلم الاجمالي ـ أعني : الكون المذكور ـ أمر بديهي وحينئذ فيكون مئونة اثبات كون الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، إذ لا يتصوّر لها في الكون المذكور قبلية وبعدية وتجدّدا وتغيّرا ، وحينئذ فيكون ما ذكره أخيرا من جواز تغير الاضافات اشارة إلى جواز تغيرها من حيث انتسابها إلى الأشياء المعلومة لا من حيث انتسابها إليه ـ تعالى ـ ؛ فتأمّل.

وربما قد ظهر لك انّه لا يمكن حمل كلامه على العلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل أيضا ، لأنّ في مواضع من كلامه دلالة صريحة على علمه بخصوصيات الأشياء وتعيّناتها. على انّه لم يعلم من كلام هذا المحقّق في مواضع من كتبه ذهابه إلى القول بالعلم الاجمالي على الاحتمال الأوّل، وإنّما المعلوم في موضع من شرح الرسالة قوله بالعلم الاجمالي على الاحتمال الثاني ـ كما أشرنا إليه قبل ذلك ـ. وإذ بطل حمله على شيء من المذكورات من العلم الصوري والاجمالي على الاحتمالين فتعين حمله على أحد الوجهين اللّذين اخترناهما ؛ وهو المطلوب.

ثمّ لا يخفى بأنّ الكلام الّذي نقلناه من المحقّق يخالف الظاهر من كلماته في سائر المواضع ، فانّك قد عرفت انّ مذهبه في شرح الاشارات وفي شرح الرسالة انّ علمه بالمعلومات القريبة إنّما هو بحضورها عنده وبالمعلولات البعيدة بالصور المرتسمة في المعلولات القريبة ، ولا ريب في عدم تطبيق كلامه المنقول من شرح الرسالة على ذلك. قال بعض الأفاضل : كلام المحقّق في شرح الرسالة مخالف لما علم من مذهبه من أنّ كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل أو يوصف بهذه الصفات على أيّ وجه كان يكون مثبّتا في جوهر عقلي يعبر عنه بالكتاب المبين ، فانّه ظاهر في أنّ مذهبه انّ علمه ـ تعالى ـ بجميع الموجودات إنّما هو بالصور الحاصلة في الجوهر العقلي ـ كما هو مختار تالس الملطي ـ ، فليس ينطبق على التحقيق الّذي ذكرت على مذهبه. ثمّ قال : وتأويل كلامه في شرح الرسالة بالعلم قبل الايجاد يوجب كون مئونة اثبات نسبة الزمانيات إليه نسبة واحدة لغوا ، لأنّه لا يتصوّر اختلاف نسبة العلم قبل الايجاد. على انّه يكون علمه قبل الايجاد بالصور وبعده بالحضور ـ لما علم من مذهبه ـ. فيلزم كون علمه قبل الايجاد على سبيل الكلّية ، فلا يكون عالما بالجزئي من حيث هو جزئي. فهذا خلاف ما بصدده من ردّ كلام الحكماء في نفيهم العلم بالجزئي من حيث هو جزئي. ثمّ قال : ولا ريب في أنّ المحقّق يقول بكون علمه ـ تعالى ـ بانكشاف ذوات الموجودات على النحو الواقع عنده ـ على ما ظهر من كلام شرح الرسالة ـ بحيث لا ينبغي أن يرتاب في ذلك ، كيف ومخالفته مع الحكماء في نفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات وتشنيعه عليهم في ذلك ـ لشدّة مبالغته في أن يستند جميع الأزمنة والأمكنة إليه تعالى نسبة واحدة ، فلا يلزم تغيّر في علمه من كونه عالما بالجزئيات ـ صريحة في أنّه إنّما خالفهم وشنع عليهم في قولهم بالعلم الصوري الحصولي ونفيهم العلم الانكشافي الحضوري ، وهذه مخالفة أخرى وراء المخالفة في الارتسام في ذاته. والتشنيع في نفيهم العلم بالجزئي إنّما هو في النفي اللازم من العلم الحصولي ، إذ الحكماء مع قولهم بالعلم الحصولي لا ينفون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات رأسا ، فلو لم يكن تشنيعهم  لأجل قولهم بالعلم الصوري بل لنفيهم العلم بالجزئيات رأسا لم يكن تشنيعه متوجّها عليهم ـ لعدم نفيهم ذلك رأسا ـ ، فاللازم حينئذ أن يؤوّل ما علم من مذهبه من أنّ علمه بالمادّيات بالصور المرتسمة في جوهر عقلي بأن يقال : مراده من الجوهر العقلي الّذي فسّر بالكتاب المبين عبارة عن شخص الانسان الكبير الّذي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه ، فانّ مجموع العالم الأكبر من حيث المجموع ـ كما صرّح به المحقّقون ـ شخص وحداني صادر عنه ـ تعالى ـ بالإبداع ، وهو من هذه الحيثية جوهر ـ وهو ظاهر ـ ، وعقلي إذ خلق ابداعا بلا مادّة. ولاشتماله على اعيان جميع الموجودات وصورها يكون كتابا ثبت فيه جميع ما صدر عن الباري ـ تعالى ـ بواسطة وبدونها من الأزل إلى الأبد ، وتعبير المحقّق عن « الكتاب المبين » قبيل الكلام المذكور « بدفتر الوجود » يؤيّد هذا الحمل كما لا يخفى ؛ انتهى.

وأنت خبير ببعد هذا التأويل ، مع انّه إذا كان المراد بالجوهر العقلي هو العالم الأكبر بجميع اجزائه وكان حينئذ مراد من قال بعلمه بالموجودات بالصور المرتسمة في الجوهر العقلي انّ علمه بالموجودات إنّما هو بحصولها في العالم الاكبر ـ أي : بصيرورتها موجودة في الخارج ـ لزم عدم علمه بالأشياء قبل الايجاد ؛ والظاهر انّ هذا المحقّق لا يقول به. على انّه قال بأنّ علمه بالمعلولات البعيدة إنّما هو بارتسام صورها في المعلولات القريبة لا في الجوهر العقلي ، ولا ريب في انّه لا يمكن تأويل المعلولات القريبة بالعالم الأكبر بجميع اجزائه ـ كما لا يخفى ـ.

ثمّ قال : والأولى أن يحمل مذهب المحقّق على التفصيل باعتبار المعلولات القريبة ـ أعني : المجرّدات وغير الزمانيات ـ والمعلولات البعيدة ـ أعني : المادّيات والزمانيات ـ ، كما يشعر به كلامه في شرح رسالة العلم ـ على ما نقلنا فيما سبق ـ من الفرق بين المعلولات القريبة والبعيدة؛ وكما يدلّ عليه كلامه في شرح الاشارات ـ من الفرق بين المعلولات الذاتية وغير الذاتية ـ حيث قال : « فإذن المعلولات الذاتية للفاعل العاقل لذاته حاصلة له من غير أن يحلّ فيه » (9) ، فانّ المراد من المعلولات الذاتية هي المعلولات القريبة ـ أعني : المبادي العالية المجرّدة عن الموادّ ـ. فيصير حاصل مذهبه على هذا التفصيل كون علمه بالمعلولات القريبة ـ أعني : المجرّدات ـ بحضور ذواتها بأنفسها وبالزمانيات والمادّيات بحصول صورها في المعلولات القريبة مطلقا ـ أعني : قبل وجوداتها وبعدها ـ حيث لا يتصوّر هناك ـ أي : في الصور المرتسمة بين المعلولات القريبة ـ قبلية وبعدية. وحينئذ فيكون مراده من كلامه المذكور من شرح الرسالة كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ في علمه بالمعلولات البعيدة ـ أعني : المادّيات والزمانيات ـ في الشهود العلمي الارتباطي أو في الوجود العيني. لكن لا بمعنى كون جميعها حاضرة عنده وكون نسبة حضوراتها العينية بالنسبة إليه ـ تعالى ـ على السوية من غير قبلية وبعدية حتّى يرجع إلى ما ذكرنا من كون الأشياء حاضرة له بوجوداتها العينية عنده في الأزل وإن لم يوجد بعد ؛ بل بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه ـ تعالى ـ أصلا. ولا يمكن أن يحمل مذهبه على التفصيل باعتبار قبل الوجود وبعده بأن يكون مراده انّ علمه بالأشياء قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها وبعده بنفس ذواتها ، لأنّه إذا قال بحضور الزمانيات والمادّيات عنده ـ تعالى ـ بحسب الوجود العيني بعد كونها موجودة لزمه أن لا يكون فرق بين قبل الوجود وعنده وبعده ـ بمقتضى الكلام المنقول عن شرح الرسالة ـ. فلا معنى لكون علمه ـ تعالى ـ بها قبل أزمنة وجوداتها بالصور الزائدة على ذواتها وعند وجوداتها بنفس ذواتها مع استواء نسبتها حينئذ إليه من دون قبلية وبعدية بمقتضى الكلام المذكور ، فانّ بعد تسليم حضورها مع استواء نسبة أزمنة وجوداتها إذا كانت موجودة يوجب الاعتراف بكونها كذلك قبل الوجود أيضا ـ بمقتضى الكلام المذكور ـ.

ثمّ يلزم على مذهبه ـ بناء على الحمل المذكور ـ عدم حضور المادّي بوجوده العيني عند الواجب كما ذهب إليه الحكماء من قولهم بعدم حضور المادّي عند المجرّد والزماني عند غير الزماني ، ولذا قالوا بالعلم الصوري. وحينئذ فيكون الفرق بين مذهبه ومذهبهم في مجرّد انّهم قالوا بالعلم الصوري في المجرّدات والمادّيات معا وهو قال به في المادّيات فقط. وممّا يؤيد ما ذكرناه انّ مثل هذا الاضطراب الّذي في كلام المحقّق قد وقع في كلام الحكماء أيضا ، فانّ الكلام الّذي نقله بعض الفضلاء منهم في هذا المقام ـ كما ذكرناه ـ مضمونه بعينه ما ذكره المحقّق في شرح الرسالة ، وحاصله كون نسبة جميع الأزمنة بالنسبة إليه على السواء مع كونهم غير قائلين بموجبه ، فانّ موجبه كون جميع الأشياء حاضرة له ـ تعالى ـ دفعة ، فيكون عالما بذواتها لا بصور زائدة عليها ؛ مع انّهم مصرّحون بخلافه. فمرادهم من ذلك الكلام ما ذكرناه بعينه في توجيه كلام المحقّق من كون جميع الأزمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمي الإرتباطي أو في الوجود العيني ، لكن بمعنى انّه لا يمكن أن يحصل لشيء من الزمانيات والمكانيات نسبة حضور معه أصلا لا بمعنى حصول الحضور مع استواء النسبة حينئذ للوجه الّذي ذكرناه من حضور الموجودات اللايزالية بوجوداتها العينية عند الواجب في الأزل لكونه محيطا بالزمان متعاليا عنه ؛ انتهى ما ذكره بعد تنقيحه وتوضيحه ـ.

وأنت خبير بفساد هذا الحمل ، لأنّ ما أورده من التحقيق في شرح الرسالة إنّما هو بعد ردّ كلام الحكماء في قولهم بالعلم الصوري الكلّي وعدم قولهم بعلمه بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ؛ ومعلوم انّهم قالوا بكون جميع الازمنة على السوية بالنسبة إليه في الشهود العلمي ، فلو كان مراده أيضا كذلك فأيّ ردّ تحصل منه لكلامهم؟! ، وكيف يتصحّح بذلك علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات؟! ، فانّ العلم الحضوري لا يكون إلاّ كلّيا ولو تحقّق فيه استواء نسبة الزمانيات إليه ـ تعالى ـ. وحمله على استواء النسبة في عدم حصول حضور شيء من الزمانيات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ يخالف الصريح من كثير عباراته المذكورة ، فانّه صرّح بكونه محيطا بالكلّ عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان ، وبكونه عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء من المكان يوجد ؛ ولا ريب في أنّ أمثال تلك العبارات لا يناسب الحمل المذكور. ومن احاط بكلمات هذا الفاضل في هذا المقام في تحقيق كلمات المحقّق الطوسي يجد فيها اختلالا كثيرا! ، كما انّ من احاط بكلام المحقّق في مسئلة العلم يجد فيه اختلافا! ، فانّك قد عرفت انّ ما نقلناه منه في شرح الرسالة ظاهر في ما اخترناه وهو خلاف سائر كلماته!. ومن كلماته الّتي لا تخلو عن المسامحة عند المحصّلين ما ذكره في شرح الاشارات بعد قول الشيخ : « فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل» بقوله : « واعلم! ، انّ هذه السياقة تشبه سياقة الفقهاء في تخصيص بعض الأحكام العامّة بأحكام يعارضها في الظاهر ، وذلك لانّ الحكم بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إن لم يكن كلّيا لم يمكن أن يحكم بإحاطة الواجب بالكلّ ، وان كان كلّيا وكان الجزئي المتغير من جملة معلولاته أوجب ذلك الحكم أن يكون عالما به لا محالة. فالقول بأنّه يجوز أن يكون عالما به ـ لامتناع كون الواجب موضوعا للتغير ـ تخصيص لذلك الحكم الكلّي بحكم آخر عارضه في بعض الصور ، وهذا دأب الفقهاء ومن يجري مجراهم. ولا يجوز أن يقع أمثال ذلك في المباحث المعقولة لامتناع تعارض الاحكام فيها ». ثمّ قال : « فالصواب أن يؤخذ بيان هذا المطلوب من مأخذ آخر ، وهو أن يقال : انّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ولا يوجب الاحساس ، وادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية ـ كالحواسّ وما يجري مجريها من التخيل والتوهّم ـ ، والمدرك بذلك الادراك يكون موضوعا للتغير لا محالة. أمّا ادراكها على الوجه الكلّي فلا يمكن أن يدرك إلاّ بالعقل ، والمدرك بهذا الادراك يمكن أن لا يكون موضوعا للتغيّر ؛ فاذن الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغير بل كلّ ما هو عاقل يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني » (10) ؛ انتهى.

ووجه المسامحة هو انّ ما ذكره في الصواب هو عين ما ذكره الشيخ ، فانّ مراد الشيخ من قوله: « يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا ـ ... إلى آخره ـ » ليس إلاّ نفي الإحساس واثبات علمه بالجزئيات على سبيل الكلّية ، وهو أيضا نفى عنه الإحساس واثبت له العلم الكلّي ؛ فمأخذ الدفع هو التدافع. وحينئذ يرد عليه ما يرد على الشيخ من أنّ الجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها متغيرة معلولة له ـ تعالى ـ والمفروض انّ العلم بالجزئيات المتغيّرة من حيث انّها متغيرة منحصر في جهة الإحساس ، وهو ممتنع في حقّه ـ سبحانه ـ ؛ فيلزم أن لا يكون القول بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول كلّيا ، فلا يتمشّى حينئذ احاطة علم الواجب بجميع الأشياء.

ثمّ انّه قد أورد على حديث التعارض : بأنّه لا يتصوّر التعارض بين ما يوجبه المقدّمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول وبين نفي علم الواجب بالجزئيات علما زمانيا متغيّرا ، فانّ العلم هناك مطلق وهناك مقيد ، فلا يظهر وجه للزوم التعارض. والحاصل : انّ المقدمة القائلة بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول تفيد العلم بجميع الأشياء ـ سواء كانت كلّية أو جزئية ، متغيرة أو غير متغيرة ـ. ونفيهم العلم الزماني المتغيّر عن الواجب لا ينافي ذلك ، فانّ المنافي للعلم الزماني المتغير قابل لعلمه ـ تعالى ـ بالجزئيات الزمانية المتغيرة. إلاّ انّه يقول انّ علمه بها بحيث لا يوجب التغير في علمه ؛ إمّا لذهابه إلى أنّ علمه بها على سبيل الكلّية ـ كما ذهب إليه الشيخ وأمثاله ـ ؛ وإمّا لذهابه إلى أنّ جميع الجزئيات من حيث هي جزئيات حاضرة عنده ـ تعالى ـ بأحد الوجهين اللّذين ذكرناهما. وعلى هذا فلنا منع ما ذكره المحقّق من ادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانية ، لأنّ ادراك الجزئيات المتغيّرة من حيث هي متغيرة إنّما يكون بالآلات الجسمانية بالقياس إلينا ، لا بالنظر إلى الواجب ـ لما ذكرناه من الوجهين ـ.

وإذ عرفت انّ الكلام المذكور المنقول من شرح الرسالة منطبق على ما اخترناه فهو صحيح في نفسه ولا يرد عليه شيء من الايرادات الّتي أوردها عليه بعض أفاضل المحقّقين ، ولا بدّ لنا من نقلها وردّها حتّى يظهر جلية الحال.

فمنها : انّ فيما ذكره اعترافا بأنّ بعض معلولاته ـ تعالى ، كالجزئيات المتشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية وكالحضور والغيبة ـ غير معلوم له ـ تعالى عن ذلك ـ ، مع أنّ القاعدة المذكورة ـ أعني : استلزام العلم بالعلّة للعلم بالمعلول ـ تقتضي معلومية كلّ ما هو معلول له ، وهذا بالحقيقة تسليم الايراد ، أي : ما ذكره المحقّق من قوله : « وكذا نفى العلم بالجزئيات المتشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانية عنه ـ تعالى ـ لا ينسلم في تنزيهه بالحقيقة » تسليم واعتراف لقول المعترض ـ وهو : انّه لو كان علمه تعالى بالجزئيات بوجه كلّى يلزم عدم علمه بها ـ.

وأجيب عنه : أنّه ليس في كلام المحقّق اعتراف بأنّ بعض معلولاته ـ تعالى ـ غير معلوم له ـ تعالى ـ ، بل مراده انّ الجزئيات المشخّصة معلومة له ـ تعالى ـ بالاطلاع الحضوري لا بالصور ولا بالآلات الجسمانية بأن يكون محتاجة إليها على نحو احتياجنا إليها. وأمّا الحضور والغيبة فهما معلومتان له ـ تعالى ـ بالنسبة إلى الممكنات بمعنى انّ الحضور والغيبة الّتي تتحقّقان لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر فهما معلومتان له ـ تعالى ـ. وأمّا الحضور والغيبة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ بأن يكون بعض الأشياء تارة حاضرا عنده ـ تعالى ـ وتارة غائبا عنه ـ تعالى ـ فممّا لا يتصوّران في حقّه ـ تعالى ـ ، إذ المراد بالحضور هنا هو حضور أمر من شأنه الغيبة وكلّ شيء عنده حاضر دائما ولا يغيب عنه قطّ ، فلا يتحقّق الحضور بهذا المعنى في حقّه ـ تعالى ـ كما لا يتحقّق الغيبة بأيّ معنى كان في حقّه ـ سبحانه ـ قطّ.

قيل : ويمكن أن يكون المراد من الحضور المنفي في كلامه هو الحضور في مكان المتكلّم أو زمانه ـ كما يعلم من قوله : « لأنّه ليس بزماني ولا مكاني » ـ على أن يكون المراد منه أنّه ليس له ـ تعالى ـ زمان أو مكان يختصّ به حتّى يقال هو ـ تعالى ـ ليس في غيره من الأزمنة. ومعلوم انّ الحضور بهذا المعنى ـ أي : كون الشيء حاضرا في مكانه تعالى أو زمانه ـ لا يتصور في حقه ـ سبحانه ، لتعاليه عن المكان والزمان المختصّين به ـ.

وأنت خبير بأنّ هذا القول مبني على عدم استواء نسبة جميع الأزمنة إليه ـ تعالى ـ ، بل المنفيّ عنه إنّما هو الزمان المخصوص به ويمكن أن يكون زمانيا بمعنى كونه موجودا في جميع الأزمنة.

وأنت تعلم انّ هذا مخالف لما جوزنا من كونه متعاليا عن المكان والزمان مطلقا وكونه خارجا منها ، فالمراد بقوله : « ليس بزماني » انّه لا تعلّق له بالزمان أصلا وجميع الأزمنة عنده ـ تعالى ـ متساوية في عدم تعلّقه بها ، وليس المراد به ـ كما ظنّ ـ انّه ليس له زمان يختصّ هو به، بل هو موجود في جميعها ، لأنّه إذا كان متعاليا عنه محيطا به فلا معنى لكونه موجودا في جميعها. فنفي الحضور عن زمانه ـ سبحانه ـ لعدم حضور الزمان في حقّه أصلا لا لعدم زمان مختصّ له ، فلا يجوز أن يقال : ليس هو ـ تعالى ـ في غيره من الأزمنة لذلك لا لأنّه لا يكون في زمان أصلا.

والحاصل انّ المنفيّ في قول المحقّق إنّما هو ادراك الجزئيات المشخّصة على وجه يدرك بالآلات الجسمانية ـ أي : على وجه يكون به مشارا إليها « بها هنا » و « هناك » ـ ، وهو كونها مشارا إليها بالإشارة الحسية. ومعلوم انّ نفي هذا الادراك ـ لكونه نقصا ، لتعاليه عن الزمان والمكان ـ لا يستلزم نفي المعلومية بالكلّية ، فانّ انكشافها بالاطلاع الحضوري عنده ـ تعالى ـ أتمّ وأقوى من الانكشاف الحاصل من الإحساس بالآلات الجسمانية. وكذا المنفى من الحضور في كلامه إنّما هو حضور أمر من شأنه الغيبة ، ومعلوم انّ نفي الحضور بهذا المعنى لا يوجب نفي الحضور مطلقا.

ثمّ كما انّ نفي الادراك على وجه الاشارة الحسية ونفي الحضور بالمعنى المذكور لا يستلزم نفي المعلومية بالاطّلاع الحضوري والإنكشافي الاشراقي فكذلك لا يستلزم نفي معلومية الادراكات الحسية والحضور والغيبة الّتي تحصل لبعض الممكنات بالنسبة إلى بعض آخر ، فجميع ما يحصل بين الممكنات من الادراكات على وجه الاشارة الحسية وعلى وجه يكون المدركات به مشارا إليها « بها هنا » و « هناك » ـ وكذا الحضورات والغيبات وغير ذلك من الأوضاع والأحوال الّتي يتحقّق بين الممكنات ـ معلومة له ـ تعالى ـ بالاطّلاع الشهودي. ويمكن أن يقال : انّ المعترض توهّم انّ المنفي في قول المحقّق : « ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم أو موجود هناك أو معدوم » : إنّما هو الادراك الّذي يتحقّق به كون الشيء مشارا إليه بالإشارة الحسية ، وهو كون الشيء مشارا إليه بالنسبة إلى ما هو مثله في كونه زمانيا بمعنى انّ الادراكات والحضورات المكانية والزمانية الّتي تقع بين الممكنات لا تكون معلوما له ـ تعالى ـ ، لتوقّف ذلك أيضا على الآلات الجسمانية.

وحينئذ فالجواب عنه : انّ التوقّف على الآلات الجسمانية إنّما هو إذا حصل الادراك بالإحساس لا إذا حصل الادراك الاحساسي بالاطلاع الحضوري ؛ والمنفي هو الأوّل دون الثاني ، إذ نفيه لا يستلزم نفيه وهو ظاهر.

ومنها : انّ ما ادّعاه من انّ المدرك لا بآلة جسمانية غير زماني ونسبة جميع الأزمنة إليه نسبة واحدة ظاهرة الفساد ، لأنّ نسبة الزمانيات إلى الزمان بالمعية في الوجود ـ سواء كانت منطبقة أو غير منطبقة ـ ، والمنطبقة هي الحركة الموجودة في الزمان على سبيل الانطباق لأنّ الزمان مقدار الحركة القطعية ، فالحركة والزمان بينهما انطباق. وغير الحركة القطعية من الأشياء الزمانية موجودة في الزمان ، لكن لا على سبيل الانطباق ، لأنّ الزمان أمر غير قارّ الذات ، فالّذي ينطبق عليها يجب أن يكون أيضا غير قارّ الذات وليس شيء من الأشياء الزمانية غير قارّ الذات سوى الحركة ، فلا يكون الموجود في الزمان على سبيل الانطباق سوى الحركة. ولو كان نسبة كلّ زماني إلى الزمان بالانطباق ولم يكف نسبة المعية في الوجود لم يكن الاجسام في زمان ولم يعرض لها التغير زمانيا ، لأنّ نسبتها إلى الزمان ليست إلاّ بالمعية في الوجود وليست منطبقة عليه.

وإذا كان معية الشيء مع الزمان في الوجود كافيا ـ لكونه زمانيا ـ نقول : لا شكّ انّ المجرّد المدرك لا بآلة جسمانية مع انّه بريء عن التغيّر يصدق عليه انّه مع الزمان في الوجود ، ولا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ؛ فانّ اختلاف نسبة الشيء إلى الزمان يكون على جهتين :

أحدهما : اختلاف نسبته إليه باختلاف ذلك الشيء كالحادث اليومي ، فانّه كائن في اليوم لكونه معه في الوجود ، ومعدوم في الماضي لفقدانه فيه ؛

والثاني : اختلاف نسبته إليه ليست اختلاف الزمن ، كالفلك ، فانّه (11) كائن في اليوم لكونه معه في الوجود وغير كائن في الغد ، لفقدان الغد. واختلاف نسبة المجرّد المذكور إلى اجزاء الزمان من هذا القبيل ـ أي : من قبيل نسبة الفلك إلى الزمان باعتبار اختلاف الزمان لا باعتبار اختلاف الفلك ، لأنّ الفلك قديم عندهم ـ ، فهو ـ أي : المجرّد المذكور ـ في الزمان الماضي كائن فيه لا في الحال والمستقبل لفقدانهما أيضا لا لفقدانه ، لكونه قديما. وحاصل هذا الايراد انّه لا يشترط في كون الشيء زمانيا إلاّ كونه موجودا معه ، وهذا لا يقتضي أن يكون هذا الشيء منطبقا على الزمان كانطباق الحركة وغيرها من الأمور التدريجية عليه بأن يكون كلّ جزء منه بإزاء جزء منه وإلاّ يلزم عدم كون الأجسام زمانية لعدم تدريجها بأن يكون لها أوّل ووسط وآخر ـ لما بيّن في موضعه من امتناع وقوع الحركة في مقولة الجوهر ـ. فإذا تقرّر ذلك فليس الزمان وغيره ممّا وقع فيه بالنسبة إليه ـ تعالى ـ على السواء ، لأنّ المعية في الوجود مع الزمان يمكن أن يتغيّر بتغير الزمان وما في حكمه لا بتغير الواجب وسائر المجرّدات. فالواجب مع براءته عن التغيّر يجوز أن ينسب إلى الزمان بالمعية. وحينئذ فلا خفاء في أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه ليست نسبة واحدة ، لأنّه يجوز أن ينسب الواجب ـ تعالى ـ وغيره من المجرّدات في كلّ زمان معيّن ـ كهذا اليوم مثلا ـ إلى ذلك الزمان المعيّن بكونه معه في الوجود ؛ وظاهر انّ نسبة جميع الازمنة بالنسبة إلى هذا اليوم ليست على السواء ، فنسبتها إلى المجرّد الّذي معه أيضا ليست على السواء.

والجواب عن هذا الايراد انّه لا ريب في انّه يصدق في هذا اليوم على المجرّد إنّه موجود معه بمعنى أن يكون اليوم ظرفا للصدق ولا يصدق في هذا اليوم انّ المجرّد موجود معه على أن يكون اليوم ظرفا للمجرّد حتّى يكون معنى قولنا : « موجود معه » : انّه كائن فيه. ومعلوم انّ مجرّد الصدق على المجرّد في هذا اليوم بأنّه موجود معه على أن يكون هذا اليوم ظرفا للصدق لا للمجرد ولا بجعله زمانيا ، لأنّ حاصله انّه يصدق في هذا اليوم إنّه موجود ولا ريب في انّ الصدق على الشيء في زمان بانّه موجود لا يجعل هذا الشيء منسوبا إلى هذا الزمان ، بل ما يجعله منسوبا إلى الزمان يصدق عليه في زمان أنّه كائن فيه ؛ على أن يكون هذا الزمان ظرفا له. ولا ريب في انّه لا يصدق على المجرّد ذلك ، إذ لا تعلّق للمجرّد بهذا اليوم وبغيره من الأزمان أصلا ولا نسبة إليه سوى كونه معه في أصل الوجود ، وكما أنّه يصدق في هذا اليوم ان المجرّد موجود معه في أصل الوجود كذلك يصدق في هذا اليوم انّه موجود مع سائر الازمنة في أصل الوجود ، لأنّ نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة وهو غير مختصّ بشيء منها ، بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة ، بل جميع الموجودات في الأزمنة والأمكنة ـ ذاتها وأزمنتها وأمكنتها وسائر متعلّقاتها ـ حاضرة عنده على نحو واحد من غير اختلاف ، فظهر انّ عدم كون نسبة الأزمنة إلى هذا اليوم على السواء لا يستلزم عدم كون نسبة بعضها إلى المجرّد الموجود معه أيضا على السواء، وذلك لاختصاص وجود هذا اليوم بهذا اليوم وعدم اختصاص وجود المجرّد بهذا اليوم.

بيان ذلك : انّ نسبة الحادث اليومي إلى اليوم ليست مجرّد النسبة في أصل الوجود ، بل لها خصوصية زائدة عليها ـ وهي كون وجوده حادثا فيه ـ. ونسبة الفلك إلى اليوم أيضا ليست مجرّد المعية في أصل الوجود ولا المعية الّتي للحادث مع اليوم ـ أعني : حدوث وجوده فيه ـ ، لأنّ الفلك مقدّم على اليوم. بل إن كان الفلك هو الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كونه موضوعا للأوضاع المخصوصة الّتي تجدّدها كان راسما لهذا اليوم المخصوص ؛ وإن كان غير الفلك الراسم كان نسبته مع اليوم كون تجدّد الاوضاع المخصوصة للفلك الراسم لهذا التجدد المخصوص بهذا اليوم واقعا بالنسبة إليه. ولا ريب في أنّ تينك النسبتين نسبتان زائدتان على المعية في أصل الوجود الّتي تكون للمجرّد بالنسبة إلى اليوم ، وكلّ واحدة عنها غير النسبة الّتي تكون لأحد الفلكين مع يوم آخر بالتقدّم والتأخّر اللذين هما من مشخّصات أجزاء الزمان ، فنسبة الفلك إلى كلّ يوم غير نسبته إلى يوم آخر مغايرة بالشخص ، فلا يمكن اجتماعهما بالنسبة إليه ـ لكونهما غير قارّين ـ ، بخلاف نسبة المجرّد إلى اليوم ، فانّها مجرّد معية في أصل الوجود. فكون الفلك اليوم في اليوم ليس بمجرّد معية معه في أصل الوجود ، بل بخصوصية زائدة عليها الّتي لا يمكن أن تتحقّق في الغد ، فعدم كونه اليوم في الغد إنّما هو لفقدان المعية الّتي له مع الغد لا لفقدان نفس الغد بحسب النسبة في أصل الوجود ، فانّ الغد انّما هو مفقود في اليوم بالقياس إلى ذاته وذات اليوم لا بالقياس إلى معيته مع الفلك في أصل الوجود.

وأمّا نسبة المجرّد إلى اليوم لمّا لم يكن زائدة على المعية في أصل الوجود فكما انّه يكون اليوم في اليوم ـ يعنى يكون له معية معه في أصل الوجود ـ يكون اليوم في الغد أيضا ـ أي : يكون له معية معه في أصل الوجود ـ ، وثبوت هذا المعنى ـ أعني : معية المجرّد مع الغد في أصل الوجود ـ لاجل انّ النسبة في أصل الوجود من غير خصوصية زائدة لا يمكن أن يختلف في كونها نسبة كذلك.

والحاصل انّ القواعد العقلية والنقلية وكلمات أساطين الحكمة متفقة الدلالة على أنّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ وغيره من المجرّدات الصرفة متعال عن الزمان ومحيط به ، وليس له ربط ونسبة إليه أصلا ، وقد تقرّر في الحكمة انّ نسبة المتغير إلى المتغير « الزمان » ونسبة الثابت إلى المتغير « الدهر » ونسبة الثابت إلى الثابت « السرمد » عند القائلين بأزلية المبدعات وقدمها ؛ وعند القائلين بحدوثها الدهري وعدم ازليتها فنسبة الثابت ـ أعني : الواجب ـ إليها أيضا « الدهر» ، وفي كلامهم تنصيصات بأنّ الشيء ما لم يكن فيه نحو من التغيّر لا يتصوّر له ربط بالزمان. مثلا الجسم بما هو موجود ليس له ربط بالزمان بل إنّما يتصوّر له ربط به باعتبار الحركة والسكون ـ الّذي هو عدم الحركة عمّا من شأنه الحركة ـ ، وبالجملة ما لم يقع الشيء في التغير لم يكن له ربط بالزمان. والثابتات الصرفة لمّا لم يتصوّر وقوعها في التغير فلا يتصوّر لها ربط بالزمان ، ولهذا قال الحكماء : انّ العقول فوق الزمان والمكان ؛ وكيف لا؟! والعقول فوق الفلك والزمان مؤخّر عن الحركة والحركة متأخّرة عن الفلك ، فيكون الزمان مؤخّرا عن العقول بمراتب ، فيكون العقول فوق الزمان متعالية عنه ، فيكون الواجب ـ تعالى ـ المتقدّم على العقول متعاليا عنه بطريق أولى ؛ وبهذا يظهر انّ كلام المعترض خارج عن قانون الحكمة ؛ هذا.

وقال العلاّمة الخفري ـ ; ـ في الجواب عن الايراد المذكور : انّ المراد من قول المحقّق : «نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ نسبة واحدة مع أنّه ـ تعالى ـ غير مختصّ بأحد من الازمنة والامكنة بل هو محيط على الجميع ولا يعزب عنه ـ تعالى ـ ما يوجد في أحد الأزمنة والأمكنة بل جميع الموجودات في الأزمنة والأمكنة حاضرة بذواتها عنده ـ تعالى ـ كلّ في وقته ومكانه والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي هي عينها وفي الحضورات الّتي هي النسبة بينه ـ تعالى ـ وبينها وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن وان لم يكن فيها تغيّر باعتبار انها واقعة في الازمنة والامكنة كلّ في زمانه ومكانه فاعلم ذلك » ؛ انتهى ؛ اعلم : انّك قد عرفت انّ الحقّ انّه لا تغير في علمه أصلا ولا تغير في الاضافات والحضورات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أصلا ، وجميع الأشياء أيضا حاضرة منكشفة لديه أزلا وأبدا ـ سواء وجدت أو لا ـ. وليس حضور كلّ منها عنده ـ تعالى ـ منحصرا بالحضور في وقته ؛ وحينئذ نقول : ما ذكره هذا العلاّمة من تسليم التغيّر في الحضورات والاضافات إن اراد انّه يحصل التغيّر فيها بالنسبة إليه ـ تعالى ـ فهو باطل ؛ وإن اراد انّ التغيّر فيها ليس بالذات بل بالعرض والتبعية بمعنى انّه نعلم انّ هذه الجزئيات المتجدّدة مختلفة النسب والاضافات فاختلاف نسبة الباري ـ تعالى ـ إليها ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه فهو مسلّم مطابق لما ذكرناه.

وقوله : « حاضرة بذواتها عنده ـ تعالى ـ كلّ في وقته ومكانه » الظاهر انّه اراد بحضور كلّ في وقته أن « يكون في وقته » ظرفا للحضور ، أي : كلّ منها حاضرة في وقته ـ كما يدلّ عليه قوله بعد ذلك : « وليعلم انّ التغير في الحضورات إنّما هو باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معين ومكان معيّن » وهذا ليس مذهب التحقيق ولا مراد المحقّق ، لأنّه إذا كان حضور كلّ في وقته لا دائما لم يكن لاستواء نسبة الأزمنة إليه ـ تعالى ـ معنى ، بل الحقّ انّ كلاّ منها في وقته حاضر عنده ـ تعالى ـ أزلا وأبدا لاستواء نسبة جميع الأزمنة إليه ـ تعالى ـ ، فالصواب أن يجعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وفائدته أنّ كل شيء مع كونه في وقته حاضر عنده ـ تعالى ـ دائما.

قال بعض الأفاضل في توجيه كلام الخفري ـ ; ـ : انّ غرضه انّ للأزمنة والأمكنة وما فيها من الحوادث ثلاث حالات :

إحداها : النسبة الّتي تغير بالقياس إليه ـ تعالى ـ ، وهي ـ أي : الأزمنة بما فيها بهذه النسبة المسمّاة « بالدهر » ـ مساوية ـ أي : لا يكون فيها تغير وتجدّد أصلا ، سواء كانت حضورات المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار اختصاص كلّ حضور بزمان معيّن ومكان معيّن أو لا ـ ، ففي تلك النسبة لكونها دهرية متعالية عن حيطة الزمان لا تغير بوجه من الوجوه وثانيتها : النسبة الحاصلة باعتبار اختصاص كلّ واحد من المتجدّدات والمتغيّرات بزمان معيّن ومكان معيّن بالقياس إلى حضور تلك المعلومات والعلوم الّتي هي عينها بعضها الى بعض.

وثالثها : النسبة الحاصلة باعتبار وقوع تلك المتجدّدات والمتغيّرات باعتبار وقوعها في الأزمنة والأمكنة من حيث انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة من غير وقوع كلّ في وقته الخاصّ أو مكانه الخاصّ ، وهذه النسبة أيضا ثابتة غير متغيرة ، وإلى الاولى أشار بقوله : « بل جميع الموجودات في الأمكنة والأزمنة حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته ومكانه ـ ؛ وإلى الثانية بقوله : « والتغير إنّما يكون في المعلومات والعلوم ... إلى آخره » ؛ وإلى الثالثة بقوله : « وإن لم يكن فيها تغير باعتبار انّها واقعة في الأزمنة والأمكنة ». وما يتراءى من التنافي بين كلام السابق ـ وهو قوله : « نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة ... الى آخره » ـ وبين كلامه اللاحق ـ وهو قوله : « والتغير انّما يكون في المعلومات والعلوم الّتي عينها وفي الحضورات الّتي هى النسبة بينه تعالى وبينها » فانّ كلامه الأوّل صريح فى عدم اختلاف نسبة الأشياء بالنسبة إليه والثاني صريح في اختلاف نسبتهما إليه تعالى ـ ؛ مدفوع بأنّ اختلاف النسبة بالقياس إليه ـ تعالى ـ ليس بالذات ، بل بالعرض ، أي : يعلم هو بأنّ هذه المتجدّدات مختلفة النسبة ، فاختلاف نسبة الباري ـ تعالى ـ ليس إلاّ بطريق وصف الشيء بحال متعلّقه ، فكلامه اللاحق لا ينافي كلامه السابق ، لأنّ المراد منه عدم اختلافها بالذات ـ أي : بالقياس إلى ذاته بذاته ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّه على ما ذكرناه يرد على كلام العلاّمة الخفري ـ ; ـ أمران :

أحدهما : انّه يظهر من كلامه انّ حضور كلّ شيء عند الواجب انّما هو في وقته ـ كما دلّ عليه قوله : « حاضرة بذواتها عنده تعالى كلّ في وقته » ـ ؛

والثاني : قوله بوقوع التغير في الحضورات والنسب بينه ـ تعالى ـ وبين الأشياء.

وهذا الفاضل لم يتعرّض لتوجيه الأمر الأوّل وتصحيحه بما ذكرناه من جعل « في وقته » ظرفا « لكلّ » وإن كان لكنا ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة انّ حضور كلّ شيء عنده ـ تعالى ـ انّما هو في وقت وجوده لا حين عدمه ، فتوجيه هذه العبارة بحيث تدلّ على حضور كلّ شيء عنده دائما توجيه لا يرضى به صاحب العبارة.

وأمّا الأمر الثاني فما ذكره هذا الفاضل في توجيهه من انّ المراد انّ التغير انّما هو في المتجدّدات بنسبة بعضها إلى بعض لا بالقياس إلى الواجب إلاّ بالعرض فهو صحيح بنفسه مطابق لما صرّح به أهل التحقيق من أنّ التغير والتجدّد في الاضافات انّما هو بالنسبة إلى الزمانيات لا بالنسبة إلى الواجب ، إلاّ أنّ الظاهر من كلماته السابقة لهذا العلاّمة انّه يلزم تغير الاضافات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أيضا ، وحينئذ فتوجيه كلامه بما ذكر لا يخلوا عن تكلّف ؛ وقد ذكرنا انّ قوله بذلك مخالف للتحقيق ومناف لما ذكره أساطين الفن.

وممّا يؤكّد ذلك ما قاله العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق بقوله : « وممّا يجب أن يعلمه ويحققه انّه ليس للحقّ الواجب اضافات مختلفة يوجب اختلاف حيثيات فيه ، بل له اضافة واحدة هي مبدأ يصحّح جميع الاضافات ـ كالرازقية والمصوّرية ونحوهما ـ. ولا سلوب فيه كذلك، بل له سلب واحد يتبعه جميع السلوب وهو سلب الامكان ، فانّه يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما كما يدخل تحت سلب الجماد من الانسان سلب الحجرية والمدرية عنه ؛ وإن كان السلوب يتكثّر على كلّ حال » (12).

والغرض انّ الاضافات والسلوب المختلفة قد تكون باعتبار حيثيات مختلفة موجودة في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه فيحصل التكثر والتركب في ذاتهما ؛ مثال الأوّل كإضافة العالمية لزيد ، فانّه لقيام صورة زائدة مع ذاته بذاته ؛ وكإضافة القادرية له ، فانّه لقيام قوّة زائدة على ذاته بذاته. ومثال الثاني كسلب الجمادية عن الانسان ، فانّه باعتبار حيثية النموّ في الانسان وسلب الشجرية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الحساسية فيه ؛ وكسلب الفرسية عنه ، فانّه باعتبار حيثية الناطقية فيه. فمثل هذه الاضافات والسلوب يوجب التكثّر والتركّب في ذات المضاف إليه والمسلوب عنه.

مثال الأوّل اضافة القيومية للواجب ـ تعالى ـ ، فانّه يتبعها الاضافات المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته ـ تعالى ـ ، كالعالمية والقادرية والرازقية وغير ذلك ـ ؛ ومثال الثاني كسلب الامكان عنه ـ تعالى ـ ، فانّه يترتّب عليه السلوب المختلفة من غير لزوم تكثّر في ذاته ـ كسلب الجسمية والجوهرية والعرضية وسلب الافتقار إلى علّة وغير ذلك ـ. فالإضافات والسلوب في حقّه ـ تعالى ـ من قبيل الاضافات والسلوب الّتي لا توجب التكثّر ولا التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ.

ومنها ـ أي : ومن الايرادات الموردة على الكلام المنقول المذكور من المحقّق ـ : إنّ قوله : «لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » غير مسلّم ، وكذا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم » ، إذ قد عرفت انّ نسبته إلى اجزاء الزمان تختلف باختلاف اجزائه ، فلم لا يجوز أن يحكم بعدم ما هو معدوم في الحال مع علمه بأنّه كان في الماضي أو يكون في المستقبل؟! ، كما انّا قد نحكم بعدم شيء في الحال مع ذلك العلم وان نحكم بأنّ شيئا موجود الآن حين كونه مع هذا الآن في الوجود دون آخر ، فانّ الاشارة إلى الآن ليست حسية حتّى يقال ما هو بريء عن الحاسّة لا يصحّ أن يشير إليه.

وأمّا قوله : « لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك أو معدوم » ، فان اراد بلفظة « هناك » الاشارة إلى مكان قريب من مكان المجرّد المذكور فمسلّم ، لأنّه ليس له مكان فلا يكون مكان قريب من مكانه. لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك مشيرا إلى مكان قريبا من مكان المجرّد المذكور ، بل نشير إلى مكان قريب من مكاننا ؛ وإن اراد الاشارة إلى مكان قريب من مكاننا فلم لا يجوز أن يحكم المجرّد مشيرا إلى هذا المكان إشارة عقلية؟! ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « غير مسلّم » خارج عن القانون ، لأنّ المحقّق في صدد منع لزوم المحذور ـ أعني : التغير في ذاته على تقدير علمه تعالى بالجزئيات المتغيّرة ـ ، فمنعه غير موجّه.

ثمّ الجواب عن جميع ما ذكره لا يخفى عليك بعد الاحاطة بما ذكرناه ؛ لانّك قد عرفت انّ نسبة المجرّد إلى جميع أجزاء الزماني نسبة واحدة ـ لكونها معية في أصل الوجود فقط ـ ، فلا يكون حكمه زمانيا متعلّقا بالآن والماضي والمستقبل ، ولا مكانيا متعلّقا بهنا وهناك وان كان عالما بجميع اجزاء الزمان والحوادث الواقعة فيها والنسب الحاصلة بينها على الوجه المطابق للواقع ـ كما ذكرناه مفصّلا ـ. والمانع في عدم تعلّق حكمه بالآن وهناك ليس منحصرا في كون الاشارة حسّية حتّى إذا جاز الاشارة العقلية ارتفع المانع رأسا ، لأنّ عدم كونه ـ تعالى ـ زمانيا ومكانيا واستواء نسبته إلى جميع اجزائهما مانع من التعلّق المذكور أيضا. وجواز اشارة المجرّد إلى هذا الزمان أو هذا المكان لا يثبت التعلّق المذكور ـ كما لا يخفى ـ.

ثمّ ما ذكره ـ من : انّه قد عرفت أنّ نسبة المجرّد إلى اجزاء الزمان يختلف باختلاف اجزائه ـ قد عرفت فساده ، وعلمت عدم اختلاف نسبته إلى أجزائه باختلاف اجزائه ؛ هذا.

وقد اجاب العلاّمة الخفري ـ ; ـ بأنّ المراد من قوله : « لا يحكم بالعدم على شيء من ذلك » : انّه ـ تعالى ـ لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال بمعنى زمان مخصوص بالمتكلّم ؛ ومن قوله : « لا يحكم على شيء » : بأنّه موجود الآن أو معدوم انّه لم يحكم على شيء بانّه موجود في آن وجوده أو معدوم فيه ؛ والمقصود انّه ـ تعالى ـ منزّه عن أن يقال انّ بعض الأزمنة ماض وبعضها مستقبل وبعضها حال بالنسبة إلى ذاته ـ تعالى ـ ووجوده.

وأمّا قول المعترض : « وامّا قوله : لا يحكم على شيء بأنّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ » ، فدفعه أن يقال : المراد الشقّ الأوّل من الترديد ، ولا محذور فيه ، إذ قوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بانّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ » لا يخلّ بالمقصود ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ هذا الجواب مبني على تسليم عدم استواء جميع الأزمنة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، وتأويل كلام المحقّق بما لا يوجبه ويبعد ارادته عن عبارته. وذلك لأنّه أوّل الحال في كلامه بزمان مخصوص بالمتكلّم بمعنى كون وجود المتكلّم مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، فمعنى قول العلاّمة الخفري ـ ; ـ في تأويل كلام المحقّق : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال ـ ... إلى آخره ـ » : انّ الواجب ـ سبحانه ـ لا يحكم على عدم شيء أعمّ من أن يكون عدما واقعا في الآن بدون اختصاصه بالمتكلّم أو عدما واقعا في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به ، لأنّ حكمه لا يكون واقعا في آن مخصوص بالمتكلّم. فالمنفيّ في كلام المحقّق هو الحكم الواقع في الآن باعتبار اختصاص المتكلّم به بمعنى كون وجوده مختصّا به ليس قبله ولا بعده ، لأنّ وجوده ليس مختصّا بزمان دون زمان ، فيصحّ ذلك النفي عنه ؛ وليس المنفي هو الحكم الواقع في الآن مع قطع النظر عن اختصاص المتكلّم به ، فانّ ذلك جائز بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. ومعنى قوله : « انّه يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده » : لا يحكم على شيء بأنّه موجود في آن وجوده ـ سبحانه ـ بالمعنى المذكور ـ أي : في الآن المخصوص به ـ. وعدم هذا الحكم لأنّه لا يكون وجوده مخصوصا بزمان حتّى يكون معدوما في غيره ، بل هو موجود في جميع الأزمنة. ومعنى قوله : « والمقصود انه ـ تعالى ـ منزّه عن أن يقال : انّ بعض الأزمنة ـ ... إلى آخره ـ » : انّه ـ تعالى ـ ليس بحيث يوجد بعض الأزمنة قبل وجود الواجب حتّى يكون ماضيا بالنسبة إليه بهذا المعنى ـ أي : يكون ماضيا بالنسبة إلى تمام مدّة وجوده ـ ؛ وكذا بعضها لا يوجد بعد وجود الواجب حتّى يكون مستقبلا كذلك ، وكذا لا يكون الزمان الّذي مع وجود الواجب زمانا مختصّا بوجوده بحيث لا يكون وجوده قبل ذلك الزمان ولا بعده. فتحقق الماضي والمستقبل والحال بهذا المعنى للواجب باطل ، لأنّ وجوده ـ تعالى ـ لا قبل له ولا بعد له ، بل أزلي وأبدي فلا مضيّ ولا حال ولا مستقبل بهذا المعنى له وإن وجدت هذه الأوصاف الثلاثة له باعتبار تغيرات الزمان. ومقصود المحقّق نفي الثلاثة بالمعنى المذكور عن الواجب لا بالمعنى المنوط بتغير الزمان. هذا هو مراد العلاّمة الخفري ـ ; ـ في تأويل كلام المحقّق.

وأنت تعلم انّه لا يطابق الواقع ولا كلامه ؛ لما عرفت من كونه ـ سبحانه ـ خارجا عن حيطة الزمان متعاليا عنه ، فلا يتحقّق هذه الأوصاف الثلاثة بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أصلا ـ لا باعتبار المعنى المذكور ولا باعتبار تغيّرات الزمان ـ.

ثمّ ما ذكره الخفري ـ ; ـ أخيرا بقوله : « لكنّا أيضا لا نحكم على شيء بأنّه موجود هناك ـ ... إلى آخره ـ لا يخلّ بالمقصود » يرد عليه انّ المقصود هو انّه ليس علمه ـ تعالى ـ كعلمنا ، لا مجرد إنّ وجوده ـ تعالى ـ ليس كوجودنا. فهذا الجواب لا يفيد ، بل الجواب ما ظهر ممّا ذكرناه.

ثمّ انّه من الأفاضل من حمل قول الخفري على انّ مراده انّ حكمه ـ تعالى ـ لا يتعلّق بعدم شيء بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ ، بل يتعلّق بالعدم بالنسبة إلى الغير بمعنى انّه يحكم بعدم بعض الحوادث بالنسبة إلى بعض آخر ؛ فقال في تفسير قوله : « لا يحكم بالعدم المطلق أو بالعدم في الحال ـ ... إلى آخره ـ » اى : لا يحكم الله ـ سبحانه ـ على عدم شيء أعمّ من أن يكون بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أو بالنسبة إلى الغير بأن يكون بعض الحوادث معدوما بالقياس إلى شيء من الأمور الزمانية ، لأنّه لا يحكم على النحو الأوّل لأنّه لا يتصوّر عدم المعلول بالنسبة إليه ، بل إنّما يحكم على النحو الثاني.

ولا يخفى بعد هذا الحمل وعدم انطباق أكثر كلماته عليه ؛ فالصواب انّ مراد الخفري ـ ; ـ هو ما ذكرناه ـ لتصريحه به في كلماته السابقة أيضا ـ ؛ هذا.

ثمّ الظاهر من كلام المحقّق الدواني في بعض تصانيفه في تصحيح عدم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات اختياره العلم الاجمالي وقوله بأنّه لا يلزم تغيّر في العلم الاجمالي بالجزئيات ، فبهذا العلم يعلم الجزئيات من حيث هو جزئيات مجملة من دون لزوم تغيّر فيه ؛ فانّه قال بعد نقل شبهة لزوم التغيّر في ذاته ـ تعالى ـ أو جهله ـ سبحانه ـ في علمه بالجزئيات المتغيّرة ، قلت : انّه ـ تعالى ـ يعلم المتغيّرات على وجه لا يتطرّق إليه تغيّر مع كونه مطابقا للواقع ، مثلا يعلم انّ الحادث الفلاني يوجد في الآن الفلاني أو الزمان الفلاني ويعدم في الآن أو الزمان الّذي بعده. وهكذا في سائر الحوادث ، فانّه يعلمها بعلم اجمالي هو عين ذاته على وجه لا يتطرّق إليه تبدّل ـ كما في علمنا الاجمالي بالأمور المترتّبة المتعاقبة ـ. وإنّما يلزم التغيّر فيه لو كان علمه بسبب حضوره في الآن أو الزمان ، مثل أن تعلم أنّ زيدا قائم الآن وإذا قعد فلا بدّ أن يتغيّر وتعلم انّه قاعد الآن وإلاّ كنت جاهلا بحاله ، وكان استمرار علمك بقيامه جهلا مركّبا. وأمّا إذا فرضنا أن تعلم انّ زيدا في ذلك الآن أو في ذلك البعض من الزمان بصفة القيام وفي ذلك البعض الآخر بصفة القعود ولم يتعين الزمان والآن بالحضور عندك ـ بل بالأشياء المقتضية له ، وهكذا في جميع الأحوال ـ فلا يلزم منه تغيّر وتبدّل. ويمكن تمثيله للتوضيح تارة بالأحوال المترتبة المتعاقبة السابقة ، فانّ ذلك العلم لا يتغيّر مع انّه ليس فيه كذب ؛ وأخرى بأن يفرض أنّ أحدا منّا اطّلع على الأحوال المتعاقبة اللاحقة بسبب الاطّلاع على الأسباب المؤدّية إليها ، كما في المنجّم المطّلع على الأوضاع المتعاقبة المترتبة بحيث لم يكن في هذا العلم تغيّر أصلا. وهذا ممّا لا يشتبه على ذي فطنة أصلا ؛ انتهى.

وظاهر كلامه يدلّ على انّه اختار العلم الاجمالي بالاحتمال الأوّل ، وبه صحّح عدم لزوم التغير في علمه بالمتجدّدات المتغيّرات ـ كما يشعر به تمثّله بعلمنا بالأمور المترتّبة المتعاقبة ـ.

ثمّ تمثّله بعلم المنجّم المطّلع على الأوضاع ـ ... إلى آخره ـ لا يدلّ على اختياره العلم الحصولي في تصحيح عدم التغيّر في علمه ـ تعالى ـ ، لأنّ العلم بالشيء من العلم بأسبابه وعلله لا يلزم أن يكون بحصول الصورة ، لما تقدّم في كلامنا من أنّ حضور العلّة من أقوى بواعث حضور المعلول وانكشافه من دون احتياج إلى حصول صورته.

ثمّ انّك لمّا عرفت بطلان القول بالعلم الاجمالي لا يخفى عليك حقيقة كلام هذا المحقّق ؛ هذا.

وبقي الكلام فيما نسب إلى الحكماء القائلين بالعلم الحصولي من نفيهم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات من حيث انّها جزئيات ، ولذلك كفّرهم جماعة.

فنقول لتحقيق ذلك : انّه لا ريب في انّ العلم الحصولي علم كلّي يعلم به الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، ولا يعلم به الوجودات العينية للأشياء ، وهذا ظاهر ممّا تقدّم. وقد صرّح القائلون بالعلم الحصولي ـ كالشيخ وأمثاله ـ بأنّ الواجب يعلم الأشياء على سبيل الكلّية دون الجزئية ، وزعموا انّ عدم التغيّر في علمه ـ سبحانه ـ انّما يتصحّح بذلك. قال الشيخ في الشفا : لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته عاقلا للمتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلا زمانيا محضا ، بل على نحو آخر نبيّنه ، فانّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيا أنّها معدومة وتارة انّها موجودة غير معدومة فتكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات ، ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهية المجرّدة وما يتبعها مما لا يتشخّص لم يعقل بما هي فاسدة وان ادركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض مادية ووقت وتشخّص لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة ، ونحن قد بيّنا في كتب أخرى انّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خيالية فانها تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيلة بآلة متجزّئة ، وكما انّ اثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له كذلك اثبات كثير من التعقلات ، بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلى ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ؛ وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة » (13) ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » صريح في أنّ الواجب ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات من حيث انّها جزئيات ، بل إنّما يعلمها بالصور الكلّية. وكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ غير ذلك مع انّه قائل بالعلم الحصولي والعلم الحصولي لا يكون إلاّ بالصور الكلّية المجردة؟!. وحينئذ فقوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ـ ... إلى آخره ـ » اشارة إلى انّه عالم بجميع الجزئيات ولا يخرج شيء شخصي عن علمه إلاّ انّ علمه بها بوجه كلّي ، فانّه إذا علم كلّ جزئي بوجه كلّي يصدق أن لا يخرج شيء عن علمه. ولا ريب في أنّ القول بعدم علمه بالجزئيات بوجه جزئي نقص في حقّه ـ تعالى ـ ، والداعي لهذا النفي ليس إلاّ لزوم التغيّر في حقّه ، فانّ الشيخ وأمثاله زعموا انّه ـ تعالى ـ إذا علم الجزئيات من حيث أنّها جزئيات لزم التغيّر في علمه ، لأنّه تعقل حينئذ وجودها تارة وعدمها أخرى ويكون لكلّ واحد من تعقّل وجودها وتعقّل عدمها صورة عقلية على حدة لا يجتمعان معا في الوجود ، فيكون علمه حينئذ متغيّرا. فيجب أن يكون علمه بها بالصور الكلّية المجرّدة حتّى لا يتصور فيه تارة وتارة ويمكن بقاء الصورتين معا ، فلا يلزم حينئذ تغيّر في علمه.

وفيه : انّ لزوم التغيّر والتحقّق تارة وتارة وعدم بقاء إحدى الصورتين إذا كان علمه بالجزئيات المتغيّرة الزمانية بحضورها وفرض علمه بها بالحضور زمانيا ، فلأنّه يلزم حينئذ التغيّر في العلم ولا يمكن بقاء الصورتين ـ أي : المعلومين بحضور الذات معا ـ إذا كانا في الزمانين ، إذ لا حضور لأجزاء الزمان معا بحسب الزمان. وأمّا إذا كان علمه بها حضوريا متعاليا على الزمان بريئا عن الوقوع فيه ـ كما اخترناه ـ فنقول حينئذ : لا يلزم التغيّر في علمه ولا تحقّق تارة وتارة ، بل يعقل مرّة واحدة انّها موجودة في ذلك الوقت ومعدومة في غير ذلك الوقت ، ولا يغيب عنه واحدة من الصورتين أصلا ـ كما قرّرناه وبيّناه غير مرّة ـ.

ثمّ انّه يرد على قوله : « وان ادركت بما هي مقارنة للمادة ... إلى قوله : بآلة متجزّئة » بأنّ مقارنة المادّة وعوارضها إنّما يمنع من التعقّل إذا كان الادراك بحلول صورة الشيء في المدرك وإذا كان بحضور ذاته له ـ كما في حضور المعلول عند العلّة ـ ، فلا يمنع منه أصلا ، فالجزئيات المادّية لمّا لم تكن مدركة لنا إلاّ بحصول صور زائدة فينا ولم يكن حصولها في أنفسنا المجرّدة بل يجب أن يكون في قوانا المادّية المتجزئة ، فلذلك لم يكن ادراكنا لها تعقّلا ، بل احساسا وتخيلا. ولكونها حاضرة بذواتها عند جاعلها الحقّ ـ لكونها معلولات له ـ فلا حاجة في إدراكه لها إلى حصول صورها فيه ـ تعالى عن ذلك ـ ، فيكون ادراكه ـ تعالى ـ لها عقلا. ولا حاجة هناك إلى آلة متجزئة ، فالجزئيات المادّية بما هي جزئية ومادّية شخصية وممتنعة الفرض بين كثيرين معلومة له ـ تعالى ـ من غير نقص وحاجة إلى آلة متجزئة. فظهر انّ ما ذكروه لنفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة من حيث هي جزئيات إنّما ينفي علمه بها على تقدير كون علمه ـ تعالى ـ حصوليا ، وكذا على تقدير كونه حضوريا ـ زمانيا ـ كما مرّ ـ. وأمّا على تقدير كونه حضوريا وبريئا عن الوقوع في الزمان ـ كما هو الحقّ ـ فلا يتغيّر أصلا. قال العلاّمة الخفري ـ ; ـ بعد نقل ما نقلناه من كلام الشيخ : « أقول : يعلم من كلامه المذكور انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عند واجب الوجود إلاّ بالصور الكلّية الموجودة قبل ايجادها ، ولا تنكشف عنده ـ تعالى ـ باعتبار وجودها العيني الّتي هي متغيرة باعتباره ، ونفي هذا الانكشاف كفر صريح إنّما نشأ من غطاء على البصيرة ؛ ولهذا حكم الغزالي وغيره بكفر القائل بذلك النفي ، فانّ واجب الوجود ـ تعالى ـ مبدأ لجميع الموجودات الكائنة والفاسدة ـ سواء كانت كلّية أو جزئية ـ ، فيصدر عنه ـ تعالى ـ منكشفة إذ لا مانع عن الانكشاف أصلا ، فانّ واجب الوجود يعلم بذاته كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسية كائن أو عقلية بذاتها حين كونهما موجودين ، ولا يحتاج في ادراكه ـ تعالى ـ إلى الآلة. والعجب ـ كلّ العجب! ـ انّ هذا القائل صرّح بأنّ واجب الوجود مبدأ لكلّ وجود وبأن لا يعزب عنه شيء شخصيّ ومع ذلك حكم بأنّ المحسوس الموجود في الخارج غير حاضر عنده ـ تعالى ـ باعتبار الوجود العيني ـ تعالى من ذلك علوّا كبيرا ـ ، بل لا يعزب عنه شيء من الجزئيات والكلّيات أصلا ـ لا باعتبار الوجود العيني ولا باعتبار الوجود الظلّي ـ. قال الله ـ تعالى ـ : {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]. فانّ قوله ـ تعالى ـ : « ما يعزب عن ربّك » اشارة إلى عدم الخفاء لذرّة من الذرّات باعتبار الوجود العيني؛ وقوله ـ تعالى ـ : « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين » اشارة إلى الحضور باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد العيني ، فانّ جميع المتغيّرات المحسوسات بذواتها واجب الوجود في أوقات كونها موجودة في الأعيان ، والتغير في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة لا في الذات ؛ ولا محذور فيه ـ كما اشار إليه المحقّق الطوسي بقوله: « وتغيّر الاضافات ممكن » ـ ؛ انتهى.

أقول : ما ذكره من : « انّه يعلم من كلام الشيخ انّ الموجودات الكائنة الفاسدة لا تنكشف عنده ـ تعالى ـ إلاّ بالصور الكلّية » حق لا ريب فيه ؛ وكذا ما ذكره من « انّه يظهر من كلامه من أنّها لا تنكشف عنده ـ سبحانه ـ باعتبار وجودها العيني » ، لأنّ الجزئيات إذا كانت مدركة بالصور الكلّية المجرّدة ـ كما هو عند الشيخ وغيره من القائلين بالعلم الحصولي للواجب تعالى ـ ، يلزم عدم انكشافها عنده ـ تعالى ـ على النحو المتغير المتجدّد بحسب وجوداتها الخارجية. بل الظاهر من مذهب القائلين بارتسام الصورة في ذاته ـ تعالى ـ انّ الموجودات مطلقا ـ سواء الكائنات الفاسدات أو المبدعات الباقيات ـ بما هي موجودات عينية ليس معلومة له إلاّ بالعرض ، والمعلوم بالذات منها انّما هو صورها الحاصلة في ذاته ـ تعالى ـ.

وأمّا ما ذكره من انّ ذلك كفر ، فيعلم حقيقة الحال فيه.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ واجب الوجود يعلم كلّ موجود عيني وكلّ صورة حسّية وعقلية حين كونهما موجودين » ، فمبني على ما اختاره من أنّ معلومية الأشياء للواجب بالعلم الاشراقي الحضوري إنّما هو عين وجودها ، وقبل ايجادها لا تكون معلومة إلاّ بالعلم الاجمالي بالاحتمال الثاني ، بمعنى أنّ ذات الواجب بحيث يصدر تلك الأشياء عنه منكشفة.

وقد عرفت ضعف هذا المذهب وحقيقة ما اخترناه من كونها منكشفة عنده دائما. وأمّا ما ذكره لثبوت التناقض في كلام الشيخ بقوله : « والعجب ـ كلّ العجب! ـ انّ هذا القائل ـ ... إلى آخره ـ » ، ففيه : انّ مبدئية الواجب لكلّ وجود والقول بعدم عزوب شيء شخصي عنه لا يستلزمان خصوص العلم الحضوري ولا ينافيان نفي هذا النحو الخاصّ من العلم ، بل انّما يستلزمان علما مطلقا وينافيان نفي العلم رأسا ، واين ذلك من نفي الحضور باعتبار الوجود العيني؟! ـ كما صرّح به ـ. والحاصل : انّ كونه ـ تعالى ـ مبدأ لكلّ وجود وعدم خروج شيء من علمه بنحو خاصّ ـ أعني : بنحو كلّي ـ لا يوجبان كون جميع الأشياء حاضرة عنده ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية ، فالتناقض غير لازم من كلام الشيخ وإن كان القول بكون علمه كلّيا وعدم الأشياء معلومة عنده بوجوداتها العينية باطلا.

وامّا ما ذكره من : « انّ قوله ـ سبحانه ـ ولا اصغر ولا اكبر إلاّ في كتاب مبين اشارة بحضورها باعتبار الوجود العلمي المقدّم على الايجاد ـ ... إلى آخره ـ » اشارة إلى أنّ المراد بالكتاب المبين ذوات المبادي العالية بقيامها بذواتها لا بصور الموجودات.

وأنت خبير بأنّه على ما اخترناه أيضا يمكن أن يكون الكتاب المبين عبارة عن ذلك ـ أعني : ذوات المبادي العالية باعتبار انتقاشها بصور الموجودات ـ ، فانّه على ما اخترناه كما يكون ذوات الأشياء بوجوداتها العينية منكشفة عنده ـ تعالى ـ أزلا وأبدا كذلك يكون صورها المرتسمة في أي محلّ كان منكشفة عنده دائما.

وقيل : يمكن أن يكون « الكتاب المبين » على هذا المذهب ـ أي : على المذهب المختار ـ عبارة عن لوح الوجود باعتبار حضوره مع ما فيه دفعة واحدة ومرّة غير مستمرّة عنده ـ تعالى ـ ، ويعبّر عنه باللوح المحفوظ أيضا. وحينئذ يكون علمه الّذي به يرسم تلك النقوش في ذلك الكتاب ولوح العقل الأوّل ارادته ـ تعالى ـ المتعلّقة بإفاضة الوجودات والخيرات على الدوام ؛ ويمكن أن يكون « اللوح المحفوظ » عبارة عمّا ذكرنا ؛ و « الكتاب المبين » عبارة من طومار الزمان وصفحة المادّة الكلّية باعتبار انتقاشها بصور ما في الكون تدريجا كلّ في وقته. وحينئذ يكون « القلم » باعتبار اللوح المحفوظ ما ذكرنا ، وباعتبار الكتاب المبين مجموع العقول.

وأمّا القضاء والقدر فالأوّل عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الأوّل ـ أعني : اللوح المحفوظ ـ ، والثاني عبارة عن الكتاب المبين بالمعنى الثاني ، فالقضاء لا يقبل التغيّر والقدر يقبله.

وأمّا ما ذكره من : « أنّ التغيّر في حضورها إنّما يكون تغيرا في النسبة والاضافة ـ ... إلى آخره ـ » ، ففيه : ما عرفت من أنّ التغير في حضورها إنّما هو فيما بينها ولبعضها بالنسبة إلى بعض لا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ فان جميعها حاضرة عنده ـ تعالى ـ دفعة واحدة ، ولو كان ذلك التغيّر في الحضور بالنسبة إليه ـ تعالى ـ لزم التغيّر فيه البتة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ.

وإذا عرفت ما ذكرناه تعلم انّه لا ريب في أنّ كلام الشيخ ـ ككلام غيره من القائلين بالعلم الحصولي ـ صريح في أنّ علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات إنّما هو بالصور الكلّية وانّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات بوجه الجزئية. ولو لم يعترفوا به لكان ذلك مخالفا لمذهبهم من العلم الحصولي ، لكونه لازما له.

وبذلك يعلم ضعف قول بعض الأفاضل حيث أورد على العلاّمة الخفري ـ ; ـ بأنّ كلام الشيخ لا يدلّ على ذلك ، ولا يلزم نفي علمه بالجزئيات من حيث أنّها جزئيات كونه عالما بوجه كلّى ؛ فقال : « اعلم! ، انّ قول الشيخ صريح في نفي العلم الزماني المتجدّد لا نفي العلم مطلقا ، لأنّه قيّد العلم المنفي بالزماني المحض حيث قال : « عقلا زمانيا محضا ». وقوله : « على نحو آخر » صريح أيضا في أنّ الواجب ـ تعالى ـ له علم بالمتغيرات لكن لا بوجه يكون ذلك العلم متغيرا متجدّدا زمانيا ؛ لأنّه لم ينحصر العلم بالمتغيرات بكون ذلك العلم متغيرا متجددا زمانيا ، بل يتصوّر أن يكون العلم بالمتغيرات بوجه لا يكون متغيرا متجدّدا زمانيا. وبالجملة كلام الشيخ يأبى ـ كلّ الإباء ـ عن حمله على نفي العلم بالمتغيرات راسا ، وكون المعلوم من المتغيّرات إنّما هو الطبيعة الكلّية وعدم كون الأشياء المتغيّرة المشتملة على الطبيعة معلومة بالذات ، بل كون المعلوم بالذات هو الطبيعة. وكأنّ من حمل كلام الشيخ على هذا قصر نظره في قوله : « إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي » ، واغترّه لفظ « الكلّي » ولم ينظر إلى ما وقع بعد تلك العبارة بلا فاصلة ، وهو قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ».

ثمّ قسم العلم بالأشخاص الجسمانية من حيث أنّها اشخاص جسمانية إلى قسمين :

أحدهما : العلم الاحساسي الانفعالي المستفاد من وجود المعلوم الحاصل بآلة متجزّئة ؛

وثانيهما : العلم الحاصل من جهة الاحاطة بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الاشخاص الجسمانية من حيث هي أشخاص جسمانية ، وهذا يعبر عنه بالعقل التامّ وبالعلم بالجزئي على الوجه الكلّي إمّا لأنّه كتعقّل الطبائع الكلّية في الثبات أو لأنّه ـ تعالى ـ يعلم بهذا العلم بالجزئيات بالكلّية.

ثمّ قال : « وغرض الشيخ من الكلام المذكور ليس إلاّ نفي القسم الأوّل عنه ـ تعالى ـ واثبات القسم الثاني له ـ سبحانه ، ـ فانّ قوله : « بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّي» ليس مراده إلاّ أنّ الجزئيات المتغيّرة يعلمها الواجب علما تعقّليا فعليا ويعلم جميعها معا لا بقياس وفكر وبنقل من معلوم إلى معلوم ، بل يعلم جميعها علما تامّا محيطا بالكلّ. وهذا العلم ـ كما اشير إليه ـ يعبر عنه بالعقل التامّ الغير الزماني. وينادي على ذلك بأعلى الصوت قوله : « ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض ». ونعم ما قال الشيخ : « وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة ».

وجميع ما ذكرناه يستفاد من كلماته في التعليقات حيث قال في موضع منه : تعقّل الأوّل ـ تعالى ـ عقل بسيط لذاته وللوازم عنها وللموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها ، أبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها ـ إلى اقصى الوجود معا لا بقياس وفكر وتنقّل في المعقولات ، فانّه تعقّلها ـ كلّها ـ معا على الترتيب السببي والمسببي. وقال في موضع آخر منه : الأوّل يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي من أسبابه ولوازمه الموجدة له المؤدّية إليه. وهو يعرف كلّ ذلك من ذاته ، إذ ذاته سبب الأسباب ، فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرّة. فما نسب إلى الشيخ من أنّه قائل بأنّ علمه بالأشياء بالصور الكلّية وانّ الأشياء غير منكشفة له ـ تعالى ـ بوجودها العيني ونفي هذا الانكشاف كفر صريح ، اشتباه ناش من عدم فهم كلام الشيخ! ، فانّه لا ريب في أنّ نفي هذا الانكشاف كفر صريح في الشريعة ، بل كفر صريح في مذاق العقل وشريعة البرهان أيضا ؛ إلاّ انّ كلام الشيخ في براءة عمّا نسبوا إليه » ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ القسم الثاني ـ الّذي حمل كلام الشيخ عليه ـ هو احد الوجهين اللّذين اخترناهما في تصحيح علمه بالمعدومات وعدم التغيّر في علمه ، وهو انّه ـ تعالى ـ لكونه عالما بذاته وكون ذاته علّة لجميع الأشياء ـ لكون الأشياء منكشفة عنده تعالى حين وجودها وحين عدمها ، لأنّ حضور العلّة في باب انكشاف المعلول أقوى من حضور المعلول بذاته ـ فيكون الأشياء المعلومة له ـ تعالى ـ بأسرها معلومة له منكشفة عنده ، وتكون الجزئيات معلومة له بوجه جزئي.

وأنت خبير بأنّ حمل كلام الشيخ على ذلك مجرّد تعسّف لا يقبله طبع قويم وذهن مستقيم! ؛ كيف والشيخ قائل بالعلم الحصولي وهذا القسم الّذي حمل هذا الفاضل كلام الشيخ عليه ليس إلاّ علما حضوريا ـ كما عرفت سابقا ـ ، فكيف يمكن أن يكون مذهب الشيخ ذلك؟!.

وهذا الفاضل هو الّذي اعتقد انّ الشيخ قائل بالعلم الحضوري ، وقد عرفت فساد هذا الاعتقاد.

ثمّ لا يخفى على أحد بأنّ عبارات الشيخ في كلامه المنقول هنا صريحة في كون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات علما صوريا كلّيا ، وقد صرّح بأنّ علمه بها بوجه كلّي. وهذا الفاضل لم يأت في تصحيح ما ادّعاه إلاّ بالاستبعاد والطعن على أجلة الاذكياء الّذين حملوا كلام الشيخ على ما هو صريح فيه.                                       

بقي الكلام في أنّ ما ذهب إليه الشيخ وأضرابه من الحصوليين من كون علمه بالجزئيات كلّيا وعدم علمه بها بوجه جزئي هل هو موجب للكفر أم لا؟ ، وهل يجوز تكفيرهم حينئذ أم لا؟.

فنقول : أوّل من حكم بكفر هؤلاء الحكماء القائلين بكونه ـ تعالى ـ عالما بالجزئيات بوجه كلّي دون جزئي وعدم انكشافها عنده ـ تعالى ـ بوجوداتها العينية الغزالي ، فانّه قال في تهافت الفلاسفة : « انّه يلزم على الحكماء بناء على القول بعدم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئية المتغيّرة أنّ زيدا مثلا لو أطاع الله أو عصاه لم يكن الله عالما بما يتجدّد من احواله ، لأنّه لا يعرف زيدا بعينه بأنّه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم يكن ، وإذا لم يعرف زيدا لم يعرف أفعاله وأحواله ، بل لا يعرف كفره واسلامه! ، بل إنّما يعرف انسانا واسلاما مطلقا كلّيا لا مخصوصا بالأشخاص. ويلزم على هذا أن لا يعرف محمّدا ـ 6 ـ وأن لا يعرف انّه أرسله بعينه بالنبوّة وانّه تحدّى بها وكذلك في كلّ نبي معيّن ، والله ـ تعالى ـ إنّما يعلم من الناس من يتحدّى بالنبوّة وإنّ صفة أولئك المتحدّين بها كذا ؛ وأمّا النبيّ بشخصه فلا يعرف بأحواله وصفاته ، فيلزم استبطال الشريعة بالكلّية » (14) ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ العلاّمة الخفري ـ ; ـ أيضا وافق الغزالي في التكفير.

ثمّ انّ جماعة كثيرة من المتأخّرين تشمّروا لدفع التكفير عنهم ، فقال بعضهم : انّه لا ريب في أنّ ما نقل عن الحكماء ونسب إليهم يفضي إلى أن لا يكون له ـ تعالى ـ علم ببعض الأشياء ؛ ولكن مع ذلك لا يجوز تكفيرهم ، لأنّهم مع هذا اعترفوا بأنّه ـ تعالى ـ عالم بالكلّيات والجزئيات بحيث لا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، وما هو من ضروريات الدين ليس إلاّ انّه عالم بجميع الأشياء قاطبة ، لا انّ علمه ـ تعالى ـ على وجه كلّي أو جزئي. ولهذا لا يكفّر من اعترف بعلمه ـ تعالى ـ من المتكلّمين ويقول : انّ العلم قديم والتعلّق حادث ؛ أو يقول : انّ علمه ـ تعالى ـ اضافة مستدعية لأن يكون لها طرفان ولا يمكن أن يوجد أحد طرفيها في الأزل ، مع انّ قولهم هذا ملزوم لأن لا يكون الواجب ـ تعالى ـ عالما بالحوادث قبل وجودها ، لأنّ العلم ما لم يتعلّق بشيء لا يصير ذلك الشيء معلوما. وبالجملة إذا كان العلم اضافة مستدعية لوجود طرفيها ولم يكن في الأزل أحد الطرفين لم يكن العلم متحقّقا في الأزل ، فقولهم هذا يفضي إلى نفي العلم ومع ذلك لم يكفّرهم أحد! ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ أوّل هذا الجواب لدلالته على تسليم عدم علمه ببعض الأشياء ينافي ما بعده من التصريح بأنّه لا يخرج عن علمه مثقال ذرّة في الأرضين والسموات ، فان بني الأمر على ما يدلّ عليه أوّله ـ من خروج بعض الأشياء عن علمه ـ فلا ريب في كونه كفرا وزندقة ، وإن بنى الأمر على ما بعده فيرجع إلى التوجيهات الآتية ؛ وتعلم حقيقة الحال فيها.

ثمّ ما نقل عن بعض المتكلّمين تأييدا لعدم التكفير يمكن للمكفّرين أن يقولوا : انّ هذا البعض من المتكلّمين إن علموا فساد قولهم ـ وهو افضائه إلى نفي العلم عن الواجب قبل ايجاد الأشياء ـ ومع ذلك قالوا به فيجوز تكفيرهم أيضا ؛ وإن لم يعلموا ذلك فهو أمر آخر. وعلى هذا فيمكن أن يقال من قبل الحصوليين أيضا بأنّهم إن لم يعلموا انّ القول بعلمه بالجزئيات على وجه كمّي يفضي إلى نفي علمه ببعض الأشياء ؛ فلا يجوز تكفيرهم ، وإلاّ فيجوز.

ثمّ انّ أكثر المتأخّرين الدافعين التكفير عن الحكماء الحصوليين جزموا بأنّه لا يلزم على قولهم عدم معلومية بعض الأشياء له ـ تعالى ـ ، فالتكفير لا يتوجّه عليهم ؛ لأنّه إنّما يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا انّ بعض الأمور ليس معلوما له ـ تعالى ، كما زعمه المكفّرون وليس كذلك.

ثمّ قال بعضهم في ذبّ التكفير : انّه على ما ذهب إليه الحكماء وإن لم يعلم الواجب الجزئيات الجسمانية ـ كما نعلمها بحواسّنا ـ إلاّ انّه يعلم كلّ واحد منها على وجه لا ينطبق في الخارج إلاّ عليه دون ما عداه ، وبهذا القدر يحصل التمييز بين الأشخاص. وكذا يعلم أحوال كلّ شخص وأفعاله على وجه يتميز كلاّ منها عن الآخر ويعلم أوقاتها المعينة ، إلاّ انّه لما لم يكن بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ماض وحال ومستقبل لم يعلم انّ بعضها واقع في الآن وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ـ لتعاليه عن الدخول تحت الأزمنة باعتبار ذاته وصفاته ـ ، بل يعلم كلاّ من الأشخاص وأفعالها بحيث يتميز كلاّ منها عن الآخر ؛ وهذا كاف في اجراء احكام الشريعة ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : لا يخفى انّ كلام الشيخ في الشفا وغيره ـ من النجات وسائر كتبه ـ ناد على أنّ الشيخ غير ملتزم بخروج شيء من الجزئيات عن علمه ـ تعالى ـ ، بل يقول : انّ الله ـ تعالى ـ يعلم كلّ شيء بصورة كلّية بل بالعلم الكلّي وإن كان المعلوم جزئيا مادّيا ، وأورد كلام الله ـ تعالى ـ سندا لعقيدته ـ وهو قوله سبحانه : « ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الارض » ـ. وذكر بعده كونه من العجائب لأنّه عجب أن يكون العلم مجرّدا ومع هذا يكون مطابقا للمعلوم الجزئي المادّي المتغير. ولكن هذا العجب وغيره من الأمور الّتي لا يجوز في غيره ـ تعالى ـ يجوز في حقّه ـ تعالى ـ ، كما أنّ ادراك المسموع والمبصر في الغير لا يتصوّر بدون آلة السمع والبصر وفي حقّه ـ تعالى ـ يتصوّر بإرجاعهما إلى العلم ، فكذلك يجوز هذا الأمر العجب المذكور في حقّه ـ تعالى ـ. فالشيخ غير معترف بخروج شيء من علمه ـ تعالى ـ.

فان قيل : يلزم عليه خروج بعض الأشياء عن علمه ـ بناء على ما ذهبوا إليه ـ ؛

قلنا : دعوى الالزام مع عدم اعترافه به وحكمه بكونه عجيبا والأمر بتحصيل لطف القريحة في دركه لا يلزم الكفر على الشيخ ـ سواء تمّ كلامه في هذا الباب أو لا يتمّ ـ. وينبغي أن يعلم انّه كما انّ عند من يقول انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء يكون بحضورها بنحو وجودها على ما هي عليه ـ ومن جملتها الجزئيات المتغيّرة وهي حاضرة قبل وجودها على وجه الإجمال ، أي : بالعلم المقدّم على الايجاد ، أعني : بالعلم الّذي هو نفس ذاته تعالى ـ لا على وجه التفصيل ، وعدم انكشافها بوجه التفصيل قبلها لا يكون نقصا للواجب تعالى لعدم كمالية علم التفصيلي له تعالى ، فكذا عند من يقول بحصول عدم ارتسام الجزئيات في ذاته ـ تعالى ـ على وجه التغيّر والتجدّد المستلزم للآلة المتجزّئة مع ارتسامها على وجه أعلى وأشرف ـ أي : الوجه التجرّدي ـ لا يوجب نقصا البتّة ، فالتكفير عليه غير صواب.

فلو قلت : سبب التكفير على القائلين بالحصول ـ ومنهم الشيخ ـ هو انّه يلزم خروج الجزئيات على نحوها المتغير من تأثيره ـ تعالى ـ ، والقول به يوجب تعدّد الواجب. بيان اللزوم : إنّه إذا كانت تلك الصور وسائط وشرائط لوجوداتها وهي لا تعين ولا تخصّص تلك الجزئيات فلا يصدر من الواجب ، فيجب انتهائها إلى واجب آخر ؛ وهو كفر صريح.

قلت : كون تلك الصورة مجرّدة لا يمنع أن تكون واسطة لإيجاد الأمور الجزئية المادّية وإلاّ يلزم عدم وصول الوجود من المجرّد إليها قطّ ، والواقع خلافه لصدور المادّي ـ كالفلك ـ من العقل المجرّد فما هو وجه التخصيص هاهنا فهو وجهه هناك. وإذا علمت هذا فيجوز أن تكون تلك الصور الّتي هي مفاتيح الغيب عندهم وسائط نزول الوجود من الله ـ تعالى ـ إلى هذه الجزئيات المتغيّرة المتجدّدة ؛ ومع هذا ليست كمالا له ـ تعالى ـ ، بل الكمال هو منشأ تلك الصور وهو كون الواجب بحيث يصدر عنه تلك الصور منكشفة من غير صورة أخرى ، وبواسطتها تصدر عنه الأشياء العينية.

هذا نهاية التوجيه من قبل القائلين بالعلم الحصولي.

ولكن المستبان بالبرهان ـ على ما سبق ـ : انّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء يجب أن يكون بالحضور ـ أي : بحضور ذاته لذاته ـ الّذي هو منشئا لكلّ حضور. بل هو حضور كلّ شيء ، لأنّا نجد انّ العلم بكل شيء ـ سواء وجد أم لم يوجد ـ يكون كمالا للموجود بما هو موجود ، وكلّ ما هو كمال للموجود بما هو موجود يجب أن يكون ثابتا لله ـ تعالى ـ بحيثية ذاته الكاملة ، فعلمه بكلّ شيء عين ذاته ، فهو في مرتبة ذاته يكون محلاّ لحضور كلّ شيء. وهذا هو علمه بالحقيقة لا الأمور المفصّلة الخارجة عن ذاته ، لأنّها ليست كمالا له ـ تعالى ـ ؛ وعلمه من الصفات الكمالية، فيجب كون علمه ـ تعالى ـ غير خارج عنه بحسب الحقيقة . وإن قيل لهذه علوم تفصيلية يتعين أن يراد بها أمورا مفصّلة ومظاهر لما هو علم بالحقيقة ـ أعني : ذاته المقدّسة من كلّ نقصان ـ ؛ انتهى.

وقال بعض آخر : انّه لا فرق في تعلّق علمه ـ تعالى ـ بين الكلّي والجزئي في أنّ كلاّ منها إنّما هو بصورة كلّية تحتمل عند العقل الكثرة ، إلاّ انّ في الأوّل كما انّه يحتمل الكثرة عند العقل يصدق على الكثرة في الخارج أيضا ، وفي الثاني يحتمل الكثرة في العقل ولا يصدق على الكثرة في الخارج ، بل هذا المحتمل للكثرة عند العقل منحصر في الخارج في فرد ، فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء في نفس الأمر. وحاصله : انّه يعلم زيدا مثلا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض كلّ واحد من تلك العوارض معلومة بماهية كلّية ، والصورة المعقولة من مجموع تلك العوارض وإن كانت كلّية إلاّ أنّها في نفس الأمر منحصرة في شخص هو زيد بعينه. لأنّ ضمّ كلّي إلى كلّي وإن لم يفد الشخصية لكن قد يفيد الانحصار في شخص ، وكذا يعلم عمروا بعنوان كونه ماهية انسانية محفوفة بمجموع عوارض أخرى كلّ واحد منها كلّي والمجموع من حيث هو مجموع كلّي أيضا ، إلاّ انّه منحصر في الواقع في شخص ، وهذا المجموع وإن امكن كونه مشاركا لذلك المجموع في كثير من العوارض إلاّ أنّ هذا المجموع من حيث هو مجموع غير ذلك المجموع. من حيث هو مجموع وقس على ذلك كلّ جزئي من جزئيات الجواهر والأعراض ؛ وإلى ذلك أشار الشيخ بقوله : « ومع ذلك ـ أي : مع كون علمه بالجزئي على نحو كلّي ، أي : بحسب امكان فرض العقل ـ لا يعزب عنه شيء شخصي ـ أي : بحسب نفس الأمر والواقع ـ.

والحقّ انّ هذا النحو من العلم بالجزئيات أمر ممكن بحيث لا يفوت منه ـ تعالى ـ جزئي من الجزئيات ومثقال ذرّة في الأرض والسموات ، ولا نقص فيه بحسب الكمية ـ كما زعمه الجمهور وشنعوا عليهم به ـ ، إلاّ أنّه لكونه علما صوريا حصوليا لا انكشافيا حضوريا فيه نقص عظيم من حيث الكيفية ؛ انتهى.

وغير خفي بأنّ مآل جميع هذه التوجيهات إلى شيء واحد ، وهو انّ العلم الحصولي وإن كان نقصا بحسب الكيفية ـ نظرا إلى أنّ الحضوري أقوى ، لإيجابه انكشاف الأشياء بوجوداتها العينية ؛ بخلاف الحصولي ، لأنّه لا يعلم به إلاّ صور الأشياء ـ إلاّ انّه لا يوجب التكفير ، لأنّه لا نقص فيه بحسب الكمية ، لأنّه لا يخرج عنه شيء من الأشياء ويعلم به جميع الأشياء كلّياتها وجزئياتها ؛ ولا أنّ نحو المعلومية فيه ـ أعني : في الحصولي ـ أنقص من نحو المعلومية من الحضوري الانكشافي. واعتقاد انّ علمه ـ تعالى ـ بوجه أنقص لا يوجب التكفير ، لأنّ ما هو من ضروريات الدين أنّ الواجب يعلم جميع الأشياء ، لا أنّ علمه على نحو أقوى. وإلى ذلك اشار بعض الموجّهين حيث قال : « إنّما يلزم الكفر لو لزم غروب شيء من الأشياء عنه ـ تعالى ـ في نفس الأمر ، وقد علمت انّه لا يلزم ذلك. وما هو من ضروريات الدين ـ الّذي يلزم من انكاره كفر ـ هو كونه ـ تعالى ـ عالما بجميع الأشياء ؛ وأمّا خصوص كيفية نحو من انحاء العلم فلم يشتبه على أحد عدم كونه من ضروريات الدين. وظاهر انّ النزاع في كون العلم حضوريا أو حصوليا نزاع في كيفية العلم لا في أصله ، فالغزالي وأمثاله لمّا توهّموا من ظاهر كلامهم انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على النحو الكلّي وانّه ـ تعالى ـ لا يعلم الجزئيات من حيث هي متغيرة وانّهم قائلون بكونه ـ تعالى ـ عالما بطبائع الجزئيات ومفهوماتها الكلّية لا لشيء من ذواتها حملهم ذلك على تكفير هؤلاء ، وذلك افتراء عليهم وتوهّم من كلامهم. وأمّا من لم يتوهّم ذلك من كلامهم فلا ينبغي له تكفيرهم بمجرّد انكار نحو من أنحاء العلم وكيفية من كيفياته ، وان صحّ تخطئتهم ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هؤلاء الأعلام من عدم خروج شيء من علمه لم يأتوا فيه ببيان يظهر منه حقيقة الحال ، ولم يتعرّضوا لدفع ما ذكره المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه. فلا بدّ من ذكر ما أورده المكفّرون لخروج بعض الأشياء عن علمه ، ثمّ نقل ما قيل في دفعه ؛ ثمّ تحقيق ما هو الحقّ.

فنقول : انّ من ادّعى انّه يلزم على القول بالعلم الحصولي خروج بعض الأشياء عن علمه احتجّ بأنّ تصوّر الماهيّة إنّما يمنع فرض الشركة بواسطة أمر مخصوص منضمّ إليه ـ وهو المسمّى « بالتشخّص » ـ ، ولمّا لم يدرك ذلك الأمر المخصّص كان المدرك كلّيا. وإذا ادرك وقيد الماهية النوعية صار المدرك جزئيا ، فعلمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الكلّي مبني على عدم علمه بالمخصّص. ويؤكّد ذلك أنّ الحكماء يمنعون حصول صور الجزئيات المادّية للمجردات ، فيلزم على قولهم نفي علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية. قال المحقّق الدواني فيما أضاف على الحواشي القديمة في مبحث التشخّص بعد تقرير مذهب الجماعة القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج : ثمّ انّ هذا الامر ـ يعنى : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا ـ في الماديات يكون مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية. وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء ، لانّهم ينفون علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات ؛ انتهى.

وغرضه انّ منشأ لزوم علمه ـ تعالى ـ بالشخص انّما هو مادّيته ، اذ لو لم يكن مادّيا لم يلزم على الحكماء عدم عمله ـ تعالى ـ به وإن لم يكن له ماهية كلّية ، لانّه يجوز ادراك المجرد للمجرد من حيث هو جزئي ، والاحساس انّما هو بطريق ادراك الجزئيات المادية. فاذا فرض أنّ هذا الشخص المشخّص ـ بزعم المتأخّرين مجرّد لا يلزم عدم علمه ـ تعالى ـ به على زعم الحكماء. فقولهم : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على الوجه الكلّي لئلاّ يلزم الاحساس المختصّ عندهم بالجزئيات المادّية ، فلذلك قال الدواني : « إنّ هذا الأمر يكون مادّيا » حتّى يلزم على الحكماء عدم علمه ـ تعالى ـ به.

ثمّ انه قد اجاب عن الاحتجاج المذكور بعض من متعصبي الفلاسفة ـ كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين ـ : بأنّ تحقيق مذهبهم انّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ، فهم يثبتون علمه ـ تعالى ـ بجميع الأمور الممكنة الموجودة بحيث لا يشذّ عنه شيء عن الأشياء ولا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. ولكن علمه ـ تعالى ـ بها بوجه كلّي لا يمنع الشركة ، فكلّ ما ندركه نحن بطريق الاحساس كالتخيل فهو مدرك له بطريق التعقّل. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة ماء متقدّرة بالمقدار الكذائي في الأين الفلاني إلى غير ذلك حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ ، فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنها مع انّ المتصوّر واحد. فلا تفاوت بين ادراكنا للجزئيات وادراكه ـ تعالى ـ لها ، إلاّ أنّ ادراكنا بطريق الاحساس وادراكه بطريق التعقّل. وكما أنّ كثيرا من الصفات في حقّه نقص وان كان ذلك في غيره ـ تعالى ـ كمالا ، كذلك الادراك التخيلي مثلا نقص في حقّه ـ تعالى ـ. فهم لا ينفون علمه ـ تعالى ـ بشيء من الأشياء ، بل ينفون عنه التخيل والاحساس مع اثبات ادراكه ـ تعالى ـ جميع المحسوسات والمتخيلات ، ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل. ومن البيّن انّه لا يتعلّق بهذا القدر تكفير ، سواء تمّ دليلهم على ذلك أو لا ، وسواء طابق الواقع أو لا ؛ انتهى.

وأورد على هذا الجواب : بأنّ القول بأنّ التفاوت بين الكلّي والجزئي ليس إلاّ بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك مخالف لما نصّ عليه الشيخ في الشفا حيث قال : وامّا طبيعة النوع وحده فما لم يلحقه أمر زائد عليه لا يجوز أن يقع فيه كثرة. ثم قال بعد ذلك : بأنّ قولنا الانسان معناه انّه حيوان ناطق وقولنا انسان شخصي هو هذه الطبيعة مأخوذة مع عرض يعرض لهذه الطبيعة عند مقارنتها للمادّة ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ قوله : « واما طبيعة النوع وحدة ... إلى آخره » إلى البرهان على أنّه بين الكلّي والجزئي فرقا بحسب المعنى ، لأنّ تكثّر النوع بالأشخاص إنّما يتصوّر بعد انضمام العوارض المشخّصة إلى ذلك النوع ، وإلاّ يلزم أن يكون احد الشخصين عين الشخص الآخر. مثلا إذا لم يكن بين الانسان وبين زيد تفاوت إلاّ بنحو من الادراك فلم يكن بين زيد وعمرو تفاوت بحسب المعنى أصلا ، فيكون كلّ أمر في زيد ثابتا لعمرو أيضا ثابتا ، وهذا يوجب رفع الاثنينية ؛ وهو باطل. فلا بدّ من انضمام العوارض إلى النوع ليحصل تكثّر الاشخاص. فانكشف لذلك أنّ القول بأنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك باطل.

ولو استدل عليه بأنّه إذا سئل عن الشخص بما هو لا يقع في الجواب إلاّ النوع فلا يكون بين الشخص والنوع تفاوت إلاّ بنحو من الادراك ، نقول في دفعه : انّ المطلوب عن السؤال بما هو تحصيل تمام الماهية المشتركة لا الماهية المختصّة ، ولهذا وضع مطلب آخر للهويات الشخصية وهو « مطلب من » ـ كما هو مذكور في الشفا والاشارات ـ ، فكما انّ للنوع « مطلب ما » كذلك للشخص « مطلب من » ؛ هذا.

وقال العلامة الخفري ـ ; ـ في دفع أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ما توضيحه : انّ في تأويل كلام الفلاسفة على ذلك الوجه تأمّلا ، لأنّ حاصل التحقيق الّذي هو مبنى ذلك التأويل أن يكون شخص واحد بوجه والسرّ معلوما لعالمين بحيث يكون عند أحدهما جزئيا مانعا من فرض الشركة فيه ـ بواسطة انّه مدرك بطريق الإحساس كالتخيل ـ وكلّيا غير مانع من فرضها فيه عند الاخر ـ بواسطة انّه مدرك بطريق التعقّل ـ. وهاهنا ثلاثة احتمالات :

أحدها : أن يكون المعلوم بالذات لذينك العالمين واحد ، يعنى يكون المعلوم الّذي يكون مدركا أوّلا وبالذات لذينك العالمين كالشيء الخارجي عند من يقول بالعلم الحضوري وكالصورة عند من يقول بالانطباع ، فانّ الصورة عنده معلومة بالذات والأمر الخارجي معلوم بالعرض وبالواسطة واحدا ولا ريب في أنّ معلومية شيء واحد بعينه أولا وبالذات لعالمين لا يكون إلاّ بالاطلاع الحضوري فيكون العلمان كلاهما حضوريين إذ في العلم الحصولي لا بدّ من أن يكون المعلوم بالذات أي الصورة الحاصلة لاحدهما غير المعلوم بالذات لآخر لامتناع حصول صورة واحدة بعينها لكل منهما بل لا بدّ من التعدد قطعا وحينئذ لا شبهة في انّ المعلوم إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند احدهما كان مانعا عنه عند الاخر أيضا ومنعه مكابرة صريحة.

وثانيها : أن يكون المعلوم بالعرض لهما واحدا ويكون المعلوم بالذات لأحدهما مانعا عن فرض الشركة فيه ، والمعلوم بالذات للآخر غير مانع عنه. وهذا إنّما يتصوّر على القول بالحصول ، فيكون العلمان كلاهما حصوليين. وهذا الاحتمال مع ما فيه لا دخل له في تصحيح التأويل المذكور. بيان الأوّل يعنى ما فيه هو انّ علم كلّ واحد منهما بصورة مطابقة فلو كانت إحداهما كلّية والأخرى جزئية لزم أن تكون الصورة الّتي هي المعلومة بالذات بالنسبة إلى معلوم شخصي جزئي ـ أعني : المعلوم بالعرض الّذي هو الامر الخارجي ـ مانعة وغير مانعة مع أنّ الأمر الخارجي محكيّ عنه والصورة حاكية وإذا كان المحكيّ عنه واحدا يجب عدم تخالف الحاكي أيضا.

وأمّا بيان الثاني ـ يعنى : عدم مدخليته للتصحيح المذكور ـ فهو انّ المقصود منه بيان انّ نفس هذا الشخص الجزئي بوجه يكون مانعا للشركة ومنكشفا عنده ـ تعالى ـ حتّى يتصحّح بذلك انّ علمه ـ تعالى ـ بنحو لا يعزب عنه شيء أصلا ولا يلزم التغيّر مع انّه على هذا يكون علمه بالصورة المتقدّمة على الايجاد الّذي لا يستلزم التغيّر بزعمهم ، فيلزم أن لا يعزب عنه الأشياء باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر. والحاصل : انّه إذا كان كلّ من العلمين حصوليا يلزم لا محالة نفي الحضور الانكشافي عنه ـ تعالى ـ ؛ والحال انّ التكفير إنّما يتعلّق بذلك ، فيجوز كون واحدة من الصورتين جزئية والاخرى كلّية ؛ وعلى تقدير التسليم ليس تصحيح كلامهم من حيث هو متعلّق بالتكفير.

قيل : وجه عدم مدخليته للتصحيح المذكور انّ الكلام في تصحيح جواز كون أمر واحد بعينه معلوما لأحد من العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما لأحد العالمين بالوجه الجزئي وللعالم الآخر بالوجه الكلّي ، فيجب أن يكون أمر واحد بعينه معلوما للعالمين. وفي صورة العلم الحصولي يكون المعلوم بالذات متعدّدا والمعلوم بالعرض واحدا ، فلم يكن المعلوم بالذات بالقياس إلى العالمين واحدا ، بل يكون المعلوم بالذات لأحدهما غير المعلوم بالذات للآخر ، لأنّ المعلوم بالذات لأحدهما هو الصورة الجزئية وللآخر هو الصورة الكلّية ؛ فلا دخل لهذا الاحتمال في تصحيح التأويل المذكور.

وثالثها : أن يكون الشخص المذكور ـ أي : الشخص الّذي يكون معلوما للعالمين ـ مع الاختلاف بحسب الكلّية والجزئية هو المعلوم بالذات لأحدهما والمعلوم بالعرض للآخر ؛ وعلى هذا الاحتمال يكون أحد العلمين حضوريا والآخر حصوليا. وذلك قسمان في بادي النظر :

أحدهما : أن يكون فرض الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالذات وعدم الشركة بالنسبة إلى من هو معلوم له بالعرض حتّى يكون المعلوم بالذات مناط الكلّية والمعلوم بالعرض مناط الجزئية ؛ وثانيهما : أن يكون بالعكس من ذلك.

وفي ثاني النظر ـ أي : بعد التأمّل ـ يظهر بطلان أحد القسمين ، وهو القسم الأوّل ؛ لأنّ المعلوم بالذات هو المعلوم بالعلم الحضوري والمعلوم بالعرض هو المعلوم بالعلم الحصولي ، فإذا كان المعلومية بالذات مناط الكلّية والمعلومية بالعرض مناط الجزئية لزم أن يكون ذات الشيء المعلوم بالعلم الحضوري مناط الكلّية والصورة الحاصلة منه مناط الجزئية. وهذا باطل ، لظهور امتناع كلّية الشخص المعلوم بالعلم الحضوري من حيث هو كذلك مع جزئية الصورة الحاصلة منه ، لأنّ ذوات الأشياء جزئيات والكلّيات ليست إلاّ مفهوماتها وماهياتها الحاصلة في الاذهان. وامّا القسم الثاني فهو في حكم الاحتمال الثاني في انّه لا يصلح لتوجيه كلامهم ؛ لأنّه على هذا القسم يكون علمه ـ تعالى ـ بالصورة ، فيعزب عنه الموجودات العينية باعتبار الوجود العيني الّذي فيه التغيّر.

وقيل : القسمان المتصوّران في بادي النظر : أحدهما : كون هذا الشخص معلوما بالذات للواجب وبالعرض لنا ؛ والثاني : كونه على عكس ذلك ـ أي : كونه للواجب معلوما بالعرض ولنا معلوما بالذات ـ. وفي ثاني النظر يظهر بطلان أحد القسمين وهو القسم الثاني ، للزوم كون علمه ـ تعالى ـ بالشخص المذكور حصوليا وعلمنا به حضوريا ، وهو يستلزم كون انكشافه بالقياس إلينا أتمّ منه بالنسبة إليه ـ تعالى ـ. والقسم الأوّل مثل الاحتمال الثاني في البطلان ، لأنّه إذا كان الشخص المذكور معلوما بالذات بالقياس إلى الواجب ومعلوما بالعرض بالقياس إلى غيره لم يتحقّق حينئذ أمر واحد يكون معلوما بالذات بالقياس إلى العالمين ويكون بالقياس إلى أحدهما جزئيا وبالقياس إلى الآخر كلّيا ، بل المعلوم بالذات لأحدهما حينئذ يكون غير المعلوم بالذات للآخر ؛ هذا ما ذكره العلامة الخفري ـ ; ـ في هذا المقام بتوضيحه.

وأورد على قوله في الاحتمال الأوّل : « ولا شبهة في أنّ هذا المعلوم ـ أي : المعلوم بالعلم الحضوري ـ إذا كان مانعا عن فرض الشركة فيه عند أحدهما كان مانعا عنه عند الآخر أيضا ـ : بأنّه يجوز تعدّد الحضور بالاعتبار ، فربما يكون للمادّي مثلا حضور عند المادي يكون بحسبه جزئيا عنده مع امتناع هذا الحضور عند المجرد ، وله حضور آخر عند المجرّد يكون بحسبه كلّيا ـ كما في الصورة ـ.

وأورد على الاحتمال الثاني الّذي ذكره : بأنّه يجوز للقائل بالانطباع أن يختار هذا الاحتمال ويقول : انّ المعلوم بالذات لواحد من العالمين صورة مجرّدة كلّية وللآخر صورة مادية تخييلية جزئية مع الاتحاد في المعلوم بالعرض ـ أعني : الجزئي المشخّص ـ.

وما قيل : من انّه في هذا الاحتمال انّ علم كلّ واحد من العالمين بصورة مطابقة والصورة المطابقة لشيء واحد جزئي لا يمكن أن يكون مانعة وغير مانعة ؛

ففيه ؛ انّ هذا الكلام إنّما يصحّ على تقدير تسليم كون الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ؛ وعلى هذا التقدير لا وجه لهذا الكلام.

وأيضا : كون كلّ من الصورتين مطابقة لا ينافي كون إحداهما كلّية والأخرى جزئية ـ لجواز كون الشيء الواحد كلّيا وجزئيا باعتبارين ـ ، ونفي هذا ليس إلاّ مجرّد استبعاد لا يسمع في المطالب العلمية.

وما قيل في بيان عدم مدخلية هذا الاحتمال لتصحيح التأويل المذكور ؛

فأورد عليه : انّ المعلوم بالذات ـ الّذي هو الصورة المجرّدة ـ نائبة مناب الإحساس والتخيل ، فيتناول اتمّ منها بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ.

ولا يخفى ما في هذا الايراد ، فانّ الإحساس والتخيل يتناولان الجزئية والصورة المجردة الكلّية لا يتناولها.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ ما ذكره العلاّمة الخفري ـ ; ـ ليس تامّا في دفع انّ التفاوت ما بين الكلّية والجزئية بنحو من الادراك ، لا التفاوت في الدرك ولم يأت بشيء يظهر منه جليلة الحال.

وقد ذكر بعد كلامه المذكور كلمات آخر لتحقيق المقام ، فلا بدّ لنا أن نوردها ونشير إلى حقيقة الحال فيها ، ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ في المقام. فقال ـ ; ـ بعد كلامه المذكور : وفي الجملة لا خفاء في أنّ الممكنات المتغيّرة ـ الّتي هي معلومات بذواتها ـ والحوادث المتغيرة إن كانتا معلومتين بذاتهما للواجب الوجود بالذات لزم التغير في علمه ـ تعالى ـ المتعلّق بهما في الشهود العيني ، والفلاسفة يتحاشون عنه ؛ وإن لم يكونا معلومين له ـ تعالى ـ إلاّ بالعرض ـ أي : بالعلم المقدّم على الايجاد ـ لزم أن يعزب عنه شيء باعتبار الوجود العيني ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ ، وهذا هو الّذي يتعلّق به كفرهم ؛ انتهى

وأنت خبير بأنّه إذا لم يكن تفاوت بين الموجود العيني والمدرك الذهني إلاّ في نحو الادراك على ما هو زعم المؤوّلين لا يلزم عزوب شيء أصلا ، فالمهمّ في ردّ كلامهم إنّما هو اثبات انّ التفاوت بين الكلّية والجزئية ليس بمجرّد نحو من الادراك ، وقد عرفت انّ ما ذكره هذا العلاّمة حينئذ لاثبات ذلك ليس تامّا.

ثمّ ما ذكره من أنّ الممكنات المتغيّرة والحوادث المتغيّرة إن كانتا معلومتين بذاتيهما لواجب الوجود بالذات لزم التغيّر في علمه ، قد عرفت انّه مبني على ما ذهب إليه هذا العلاّمة من أنّ مناط انكشاف الأشياء للواجب هو وجوداتها العينية ، ولذا التزم التغيير في علمه ـ سبحانه ـ ، وقال : لا فساد فيه ـ لأنّه تغيّر في الاضافات ـ ، وقد نسب ذلك إلى المحقّق الطوسي أيضا. وعلى ما اخترناه وقرّرناه من أنّ مناط علمه ـ سبحانه ـ ليس هو وجودات الأشياء بل مناط علمه بذاته وتغيّر ذاته من معلولاته هو علمه بذاته وحضور ذاته عند ذاته فلا يلزم من انكشاف الأشياء بماهياتها وجزئياتها عنده ـ تعالى ، بالوجه الّذي قررناه ـ تغيّر وتبدّل في علمه ـ سبحانه ـ وإن لزم التغيّر في المعلولات.

نعم! ، لو كان علمه ـ تعالى ـ هو نفس وجودات الأشياء المعلومة المتغيّرة ـ كما اختاره هذا العلاّمة ـ لزم التغيّر في علمه ، بل لزم أن يكون علم الواجب ممكنا لا واجبا ؛ ولزم أيضا أن يكون علمه ـ تعالى ـ زائدا على ذاته ، وقد عرفت انّ ذلك باطل ، فانّ الصفات الكمالية له ـ تعالى ـ يجب أن يكون عين ذاته.

ثمّ ما ذكره من أنّه إذا كانت معلومة بالعلم المتقدّم على الايجاد تكون معلومة بالعرض : غرضه إنّ الأشياء إذا كانت معلومة بالعلم الصوري المتقدّم ـ كما هو مذهب الفلاسفة ـ يلزم كون الحوادث المتغيّرة الموجودة في الخارج معلومة بالعرض ، لكون المعلوم بالذات حينئذ هو صورها الكلّية. وغير خفيّ بأنّه على ما ذكره هذا العلاّمة من أنّ مناط الانكشاف بالذات هو وجودات الأشياء ويكون الأشياء معلومة بالذات حين الوجود لا قبله يلزم أن يكون الأشياء معلومة بالعرض أيضا بالعلم المتقدّم على الايجاد وإن كان هذا العلم المتقدّم حضوريا ، لأنّه يكون علما إجماليا ـ كما صرّح به ـ ، وأمّا على ما اخترناه من انّ مناط علمه ـ تعالى ـ ليس وجودات الأشياء ـ بل هي لغو في مناطية الانكشاف ـ وانّما مناطه هو ذاته وعلمه بذاته ، فتكون الأشياء معلومة بالذات بالعلم المتقدّم الحضوري التفصيلي ، ويكون علما فعليا مقدّما ، وليس فيه تغيّر وتبدّل ولا يكون له علم انفعالي أصلا.

ثمّ قال العلاّمة : وأيضا ذلك ـ أي : عزوب شيء عن علمه ـ ينافي قولهم من أنّ انكشاف العلّة عند ذاتها مستلزم لانكشاف معلولها عندها ، فقول هذه الجماعة المؤوّلين ـ من انّه انّما يتّجه تكفيرهم في ذلك لو قالوا بأنّ بعض الأمور ليس معلوما له تعالى عن ذلك ... إلى آخره ـ إن كان في العلم المقدّم على الإيجادات العينية لورد عليهم انّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي هو مع الإيجادات ، فكون المشخّص بذاته ـ أعني : المخصّص الّذي ينضمّ إلى الماهية ليتشخّص وهو المسمّى « بالتشخص » ـ متحقّقا في الاشخاص المادّية لا يوجب خروجه عن متعلّقات هذا العلم الّذي هو عبارة عن الحضور، بل الحاضر بذاته ؛ لما عرفت من أنّ العلم التفصيلي للواجب ليس عبارة عن نفس الحضور بل عبارة عن الحضار بذاته والحضور لازم له ، لما تقدّم من أنّ العلم التفصيلي للواجب هو الموجودات الخارجية. وإذا لم يلزم خروج هذا الشخص عن متعلّق هذا العلم ممّن اعتقد بخروجه يلزم خروج بعض الأمور عن علمه ، ولا ريب في أنّ ما صرّح الفلاسفة في علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات من امتناع تعلّق علمه بما لا ماهية له كلّية يوجب خروج هذا المشخّص عن علمه ؛ فالقول بأنّ الفلاسفة قائلون بعدم خروج شيء عن علمه التفصيلي الّذي مع الإيجادات خلاف مذهبهم. نعم! ، ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم. والحاصل : انّه انّما لا يخرج الجزئيات المادّية بحضورها الجزئي مع المشخّص المتشخّص بذاته عن علمه ـ تعالى ـ لو اثبت العلم الّذي هو مع ايجادات الجزئيات بأن يكون نفس وجوداتها علما ، والقائلون بالعلم الحصولي لا يثبتون هذا العلم ؛ نعم! ، يقولون بالعلم المقدّم على الايجاد وهو العلم الحصولي في الكلّي المتقدّم على ايجاد الموجودات ـ كلّية كانت أو جزئية ـ ، ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير تحقّقه لا يمكن أن يكون ايجاده مسبوقا بالعلم المغاير لذات العلّة على اعتقادهم ـ أعني : العلم الصوري الكلّي الّذي هو زائد على ذاته تعالى ـ ، لأنّ هذا العلم لكلّيته لا يتناول هذا المشخّص الجزئي. وحينئذ يكون الضمير في اعتقادهم راجعا إلى القائلين بالعلم الحصولي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري الكلّي.

وقيل : يمكن أن يكون هذا الضمير راجعا إلى غيرهم ممّن اثبت العلم التفصيلي ، ويكون المراد من العلم المغاير هو العلم الصوري لا العلم التفصيلي. وحاصل كلامه حينئذ : انّه إن كان المراد انّ المتغيّرات لا يشذّ عن علمه ـ تعالى ـ بهذا العلم الجزئي المتغير الحاصل مع المعلوم المؤخّر بذاته ـ أعني : العلم الثاني التفصيلي ـ ، لا الأوّل الاجمالي ، لأنّه هو العلم الّذي لا يوجب خروج الجزئي المتغير عن كونه متعلقا به ، فالفلاسفة لا يثبتونه ولا يقولون به ـ للزوم التغيّر في ذاته ـ. نعم! ، غيرهم يثبتونه ويقولون : انّ ذلك المشخّص على تقدير وجوده لا يمكن أن يكون مسبوقا بالعلم الّذي هو غير العالم الّذي هو ذات الواجب ـ أعني : العلم الصوري الكلّي ، أو العلم التفصيلي ـ ، لأنّه عين الموجودات الخارجية ، فلو تقدّم عليها لزم تقدّم الشيء على نفسه. وعلى التقديرين لا يفيد ذلك للقائلين بأنّ مدار العلم بالشيء ـ الّذي هو غير العالم ـ ارتسام صورته ، لأنّه على القول بالعلم التفصيلي لا ارتسام ، فلا علم على القول بلزوم الارتسام ، فيلزم عليهم نفي علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنهّا متغيرة.

وأنت خبير بأنّ كلام هذا العلاّمة هاهنا لا يخلوا عن اختلال في تأدية المرام ، لافتقاره في الدلالة على مطلوبه على الحملين إلى تقديرات ، وإن كان الحمل الثاني أبعد بكثير!.

ثمّ أكثر كلماته هاهنا أيضا مبنية على ما ذهب إليه من قوله بالعلم التفصيلي المتغاير لذاته ـ تعالى ـ وكونه عين وجودات الأشياء المتغيّرة ، وقد عرفت انّ علمه بذاته وبجميع ما يغاير ذاته ليس إلاّ عين ذاته ، وليس له تجدّد وتغيّر. فما ذكره من أنّ كلام المتأخّرين في التكفير ليس إلاّ في العلم الّذي مع الايجاد ـ وهو الحضورات الزمانية الّتي لم يتحقّق قبل الايجاد ـ يرد عليه: انّ الحضورات الزمانية إذا لم يتحقّق قبل الايجاد ، وقد تحقّق بعده. فنقول : لا ريب في أنّ الحضور له والانكشاف عنده حالة وجودية وحقيقية ، فقد تجدّد بالنسبة إليه ـ تعالى ـ أمر وجودي فكان قد بقى له حالة منتظرة ، وهو محال ؛ وقد عرفت انّ التغيّر والتجدّد في الاضافات بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ليس بجائز. والحاصل : انّ المتجدّد له ـ تعالى ـ لو كان علما فقد تجدّد له ـ تعالى ـ علم ، وهو محال ؛ وإن لم يكن علما لم يلزم من نفيه نفي علمه ـ تعالى ـ أصلا ، فلا يصحّ التكفير.

ثمّ قال العلاّمة المذكور بعد كلامه المذكور : وإذا تقدّم هذا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ ، فنسبوا إليهم انّهم ينفون علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية ، فانّهم إن ارادوا بذلك العلم العلم المقدّم على الايجاد فلم ينسبوا إليهم نفيه ، وإن اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدّد الزماني صحّ القول بأنّهم نسبوا إليهم نفيه ، وبذلك يتعلّق كفرهم. وأيضا ظهر حال قولهم : « فهم يثبتون علمه ـ تعالى ـ بجميع الأمور الممكنة الموجودة ـ ... إلى آخره ـ » ، فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني ـ الّذي هو باعتبار الوجود العيني ـ فلم يخف على أحد عند التأمّل في كلامهم انّهم لم يثبتوا ، وبذلك تعلّق كفرهم ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ الحصوليين ينفون علمه ـ تعالى ـ بالأشخاص المادّية الجزئية من حيث هي جزئيات ، لما عرفت من أنّ العلم الحصولي الصوري ليس إلاّ كلّيا. والثابت بالبرهان والمقرّر عند أهل الملل والأديان انّ الأشياء بأسرها ـ كلّية كانت أو جزئية، مجرّدة كانت أو مادية ـ منكشفة عنده بجميع خصوصياتها الثابتة لها من الكلّية و الجزئية وغير ذلك من صفاتها وأحوالها انكشافا دائميا مقدّسا عن شوائب التغيّر والتجدّد. وبذلك يظهر فساد ما ذهب إليه الحكماء الحصوليين من القول بالعلم الإرتسامي الكلّي ؛ وكذا يظهر فساد ما ذكره هذا العلاّمة بقوله : « وان اريد به العلم الّذي هو الحضور المتجدد الزماني » ، وبقوله : « فانّه إن اريد به العلم الّذي هو الحضور الزماني الّذي هو باعتبار الوجود العيني ـ ... إلى آخره ـ » ، فانّ الحضور المتجدّد والحضور الزماني ليس علما للواجب ـ تعالى ـ ، بل الحضور المتجدّد الزماني إنّما هو المعلوم حقيقة وليس للواجب علمان أحدهما زماني متغير والآخر غير زماني غير متغير ، بل علمه علم واحد مقدّس عن الزمان وعن التجدّد والحدثان ويكون ثابتا مستمرّا أزلا وأبدا فنفي علمه ـ تعالى ـ بمعنى الحضور الزماني المتجدد لا يتعلّق به كفر ، بل الاعتقاد به إنّما كاد أن يكون كفرا!.

ثمّ قال بعد هذا الكلام المنقول : وأيضا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ : فكلّ ما ندركه نحن بطريق الإحساس كالتخيل فهو مدرك له ـ تعالى ـ بطريق التعقّل ، فانّه إن اريد بالتعقّل ما هو اصطلاح الفلاسفة ـ على ما يعلم من كلام بهمنيار حيث قال: « المعلوم المجرّد عمّا سواه أو ما يقارنه مقارنة مؤثّرة يسمّى معقولا والمعلوم بما هو مخالط لغيره يسمّى محسوسا ـ ورد عليه : انّ الكلام ليس فيه ، لأنّ الكلام في علمه ـ سبحانه ـ بالماديات الجزئية من حيث هي ماديات متجزئة ؛ وإن اريد به ادراك المحسوس والتخيل بالحاسّة المدركة بل بحضور ذاته وصورته الحسّية والخيالية ـ كما هو حاضر عند النفوس الناطقة ـ ورد عليه : انّ هذا هو الّذي نفاه الفلاسفة ـ لكونه مستلزما للتغير ـ ، ويتعلّق بذلك النفي كفرهم ؛ انتهى.

وتوضيح كلام بهمنيار : إنّ ما يسمّى « معقولا » على قسمين :

أحدهما : المعلوم المجرّد عمّا سواه ، أي : المعلوم الّذي جرّد عن غيره ، يعنى يكون مجرّدا عمّا يلحقه من العوارض المادّية؛ وبالجملة يكون مجردا بحتا ـ مثل العقول المفارقة ـ ؛

وثانيهما : المعلوم الّذي يقارنه ما سواه لكن مقارنة غير مؤثرة ـ أي : غير موجبة للمادية ـ ، وأمّا كالنفس الناطقة فانّها وإن كانت مقارنة لما سواها إلاّ انّ مقارنتها ليست له مقارنة موجبة لمادّيتها ، فتكون مجرّدة ؛ وكالطبيعة الموجودة في الأشخاص، فانّها مع مقارنتها بالأمور المادّية يمكن تجريدها عنها وجعلها معقولة ، فانّ هذه المقارنة لا تجعلها مادية صرفة بأن لا تبقى لها جهة مجرّدة ، وهي الطبيعة من حيث هي.

ثمّ ما ذكره هذا العلاّمة هاهنا قد ظهر حاله ممّا سبق.

ثمّ قال بعد هذا الكلام : وأيضا ظهر حال قولهم ـ أي : قول المؤوّلين ـ : « بل ينفون عنه التخيل والإحساس مع اثبات ادراكه ـ تعالى ـ لجميع المحسوسات والمتخيلات » ، فانّه إن اريد بإثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات ادراكها باعتبار الحضور العيني ، ورد عليهم إنّهم لم يثبتوا ذلك ـ كما يعلم من التأمّل فيما نقل عن صاحب الشفا ، وفيما قاله في الاشارات وهو قوله : «فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل فيعرض لصفة ذاته انّ تغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدّس المتعالي عن الزمان والدهر » ؛ وقوله قبل القول المذكور : « ثمّ ربما وقع ذلك الخسوف الجزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بانّه وقع أو لم يقع وان كان معقولا له على النحو الأوّل، لأنّ هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله » ، وهذا القول كفر صريح ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ. وبهذا وما نظيره ـ كالقول بقدم العالم ـ حكم الغزالي بكفر قائله ؛

وإن اريد ادراكها ـ أي : ادراك المحسوسات والمتخيلات ـ باعتبار اثبات صورتها الظلية لا باعتبار حضور ذاتيهما بحسب الوجود العيني ، ورد عليه ما ورد على اختيار الشق الأوّل ـ أعني : لزوم عدم علمه بالموجودات من حيث انها موجودات عينية ـ ، وهذا كفر. وأيضا يظهر حال قولهم : « ولا يثبتون في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلية حتّى لا يمكن ادراكه بطريق التعقّل » ، فانّ هذا الكلام ـ سواء كان مطابقا للواقع أو لا ـ لا دخل له فيما حكم الغزالي وغيره بكفر قائله ـ كما مرّ ـ ، فانّ منشأ التكفير ليس إلاّ نفيهم علمه ـ سبحانه ـ بالجزئيات المتغيّرة باعتبار وجوداتها العينية ، وهو لازم من كلامهم ـ سواء أثبتوا في الأشخاص المادّية ما ليس له ماهية كلّية أم لا ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ الشقّ الأوّل من كلامه هو إرادة اثبات ادراك المحسوسات والمتخيلات باعتبار الحضور العيني ، وما ورد عليهم هو انّهم لم يثبتوا ذلك ، فيلزم عليهم عدم علمه بالموجودات العينية من حيث انّها موجودات عينية ؛ وهذا هو اللازم عليهم أيضا في الشق الثاني ، فالفساد الوارد على الشقّين واحد.

ثمّ ما نسب إلى الشيخ وأمثاله من الفلاسفة من نفيهم ادراكه ـ تعالى ـ للمحسوسات والمتخيلات باعتبار الوجود العيني واستشهد بذلك على ما ذكره الشيخ في الاشارات فقد ردّ عليه بعض الأفاضل وانكر دلالة عبارات الاشارات على ذلك ؛ فلا بدّ لنا من نقل تمام عبارته مع توضيح ما يحتاج إلى الايضاح ، ثمّ نقل ما ذكره بعض الأفاضل ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : قال الشيخ : « اشارة الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكلّيات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه بتخصيص به ، كالكسوف الجزئي فانّه قد يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئية واحاطة العقل بها وتعقّلها كما تعقل الكلّيات. وذلك غير الادراك الجزئى الزماني الّذي يحكم انّه وقع الآن أو قبله أو يقع بعده ، بل مثل أن تعقل أنّ كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي ما وقت كذا ، وهو جزئي ما في مقابلة كذا. ثمّ ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأوّل ، لان هذا ادراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله ، وذلك الأوّل يكون ثابتا لدهر كلّه وإن كان علما بجزئي » (15) ؛ انتهى.

ثمّ قال بعد فصل آخر : « تذنيب. فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا ـ ... إلى آخر ما نقله العلاّمة الخفري ; ـ.

وإذا عرفت تمام كلامه فنقول في إيضاح بعض الفاظه : انّ قوله : « الأشياء الكلّية قد تعقل كما تعقل الكلّيات » إشارة إلى انّها قد تدرك من حيث طبائعها المجردة عن المخصّصات والمشخّصات ، وقيد بقوله : « من حيث يجب بأسبابها » ليكون الادراك لها على نحو الكلّية يقينيا غير ظنيّ ، فانّ العلم اليقيني بالأشياء ما يحصل من عللها واسبابها. وقوله : « منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه » معناه : انّ تلك الأشياء منسوبة إلى مبدأ طبيعة النوعية منحصرة في ذلك الشخص ؛ والمراد : انّ تلك الأشياء الجزئية انّما يجب بأسبابها من حيث انّ تلك الأسباب طبائع أيضا ، فكما انّ الأشياء الجزئية تعقل من حيث انّها طبائع كذلك أسبابها أيضا تعقل من حيث انّها طبائع منحصرة في ذلك الشخص. وقوله : « يتخصّص به » معناه يتخصّص تلك الأشياء الجزئية بذلك المبدأ الّذي نوعه منحصر في شخصه. وإنّما قال : «منسوبة إلى مبدأ كذلك » ولم يقل : « معلولة له » ، لأنّ الجزئى من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية ولا الطبيعة علّة له من حيث هو كذلك. كذا ذكره العلاّمة الطوسي في شرحه (16)

وقال صاحب المحاكمات : « لو كان الكلام في الجزئيات من حيث انّها طبائع فمن الجائز استنادها إلى الطبائع ، فمعلوم من ذلك انّ الكلام في الجزئيات من حيث هي جزئية. والوجه في ذلك انّه اشارة إلى أنّ العلم بالأسباب الجزئية المعينة غير لازم من العلم بالمسببات الجزئية ، بل العلم بالأسباب المطلقة كاف فيه كما انّ العلم بالكسوف الجزئي يتوقّف على العلم بكون القمر في عقدة معينة في وقت معيّن ، وكون القمر في تلك العقدة في ذلك الوقت أمر كلّي وإن انحصر نوعه في شخصه » (17) ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! ، انّ مراد العلاّمة الخفري ـ ; ـ انّ غرض الشيخ من هذه الكلمات بيان انّ علم الواجب ـ سبحانه ـ بالجزئيات إنّما هو بنحو كلّي مقدّس عن التغيّر ويلزمه خروج المشخّصات والوجودات العينية عن علمه ـ سبحانه ـ. وبعض من اعتقد انّ مذهب الشيخ في علم الواجب هو العلم الحضوري دون الحصولي حمل عبارته المفتتحة بالإشارة على بيان ما يكون لغير الواجب ـ أعني : العقول والنفوس من قسمي العلم ـ ، وعبارته المفتتحة بالتذنيب على بيان انّ علم الواجب علم غير زماني مقدّس عن التغير لكونه حاصلا من العلل والأسباب لا لكونه حصوليا كلّيا ، فقال في شرح العبارة الاولى : الغرض من هذه الاشارة بيان انّ العلم الجزئي المتغير بالقياس إلينا لا بالقياس إلى الواجب يتصوّر على قسمين :

أحدهما : العلم بالجزئي المتغير بوجه لا يكون متغيرا ، وذلك إذا عقل الجزئي بالوجه الكلّي لا بالوجه الجزئي ، مثل أن يعقل المنجّم اسباب الحوادث المعينة فيحكم انّ تلك الحوادث تقع في أزمنة معينة وانّما يعقل المنجّم نكتا بأسباب والحوادث بوجه كلّي منحصر في فرد ، لأنّه يجوز أن يكون بدل كلّ من تلك الأسباب والحوادث شخص آخر مثله ، فلا يعقل إلاّ بوجه كلّي منحصر في الفرد. وذلك العلم يكون ثابتا أبد الدهر كلّه ، ولا يتغيّر أصلا ؛

وثانيهما : العلم بالجزئي بالوجه الجزئي ، وهذا لا يحصل إلاّ بالمشاهدة ، ولهذا بعد ما حكم المنجّم بأنّ الحادث الكذائي يكون في الوقت الكذائي يحصل له علم آخر انفعالي حادث جزئي يتغيّر بتغير المعلوم.

ويؤيّد ما ذكرناه ـ من : أنّ مراد الشيخ بيان قسمي العلم بالنسبة إلى غير الواجب ـ ما ذكره بقوله : « واحاطة العقل بها » ، وقوله : « ونعقلها كما نعقل الكلّيات ». ووجه التأييد انّ هاتين العبارتين ظاهرهما هو بيان حال العقل والنفس في ادراك الجزئيات المتغيّرة وبيان انّ الواجب لا يعلم الجزئيات المتغيّرة إلاّ بالوجه الكلّي دون الجزئي ، وفائدة بيان حال العقل والنفس هنا في العلم بالجزئيات المتغيّرة هي أن تشير إلى انّه كما انّ العقل له علم غير متغير بالقياس إلى الجزئيات الغير المتغيّرة كذلك للواجب علم بالجزئيات المتغيّرة من حيث أنّها جزئيات كعلم العقل بها من حيث عدم التغيّر ، لا مطلقا ـ أي : لا من حيث الكلّية أيضا ـ ، فانّ العقل لا يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه جزئي إلاّ بالآلات الجسمانية ، بخلاف الواجب ـ تعالى ـ فانه يعلم الجزئيات المتغيّرة من حيث انها جزئيات متغيرة ، لا بالآلات الجسمانية ، بل من جهة الاحاطة بجميع العلل والأسباب ـ على ما عرفت سابقا ـ. فقول الشيخ : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » ليس معناه : انّ الواجب ليس له احاطة بأنّه وقع أو لم يقع حتّى يلزم الكفر العقلي والشرعي معا ، بل المراد من « العاقل الأوّل » هو العاقل الّذي يعلم الجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، وذلك العاقل هو « العقل » أو « النفس ». فالعاقل الأوّل في عبارة الشيخ عبارة عن العقل أو النفس المدركين للجزئيات المتغيّرة بوجه كلّي لا بوجه جزئي ، لا انّه عبارة عن الواجب ـ تعالى ـ أو عن الأعمّ عنه ـ تعالى ـ وعن العقل والنفس حتّى يتّجه التكفير.

ثمّ قال في شرح العبارة الثانية المفتتحة بالتذنيب : مقصود الشيخ انّ الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان محيطا بجميع العلل والأسباب المسلسلة المنتهية إلى الجزئيات المتغيّرة بشخصيتها يكون كلّ واحد من الجزئيات المتغيّرة معلوما له ـ تعالى ـ بالوجه الجزئي، لكن على الوجه المقدّس العالي عن الزمان والدهر ، لأنّ العلم الّذي يكون زمانيا يكون علما انفعاليا وعلم الواجب ـ سبحانه ـ لا يكون إلاّ فعليا ، فالزمان فيه معلول له ـ تعالى ـ ومعلوم له ـ تعالى ـ ، فعلم الواجب منزّه عن أن يكون زمانيا. فليس في علمه كان وكائن ويكون ، بل علمه بالأشياء بعد تكوّنها كعلمه بها قبل تكوّنها ؛ ولا يدخل كان وكائن ويكون إلاّ في علوم الممكنات.

وبالجملة ادراك الجزئيات المتغيّرة بالوجه الجزئي يتصوّر من وجهين :

أحدهما : من طرق الحواسّ ـ كما هو بالنظر إلينا ـ ؛

وثانيهما : من جهة الاحاطة بجميع الأسباب والعلل المتسلسلة المنتهية إلى تلك الجزئيات. والواجب ـ تعالى ـ محيط بالكلّ لان الكلّ معلول له ، فيعلم الجزئيات المتغيّرة على الوجه الجزئي من جهة الاحاطة بجميع الأسباب. وهذا القسم من العلوم يكون أتمّ العلوم وأكملها ، ويكون متعاليا عن الزمان والدهر.

وليس مقصوده انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات المتغيّرة بالوجه الكلّي الّذي لا يتغيّر ولا يعلمها بالوجه الجزئي المتغير ، والاّ يلزم التغيّر في علمه ـ على  ما يتوهّم من ظاهر كلامه ـ ؛ انتهى.

وقد عرفت انّ حمل كلام الشيخ على ذلك في غاية التعسّف! ، وخلاف ما ثبت وتقرّر من قوله بالعلم الحصولي الكلّي ، وعباراته في جميع كتبه صريحة في قوله بالعلم الحصولي الكلّي ولا يوجد في كلامه ما يمكن حمله على العلم الحضوري بنحو ما ذكره هذا الفاضل.

ولا ريب في أنّ مراد الشيخ من العبارة الاولى بيان انّ العلم المطلق بالجزئيات ـ أعم من علم الواجب أو غيره ـ على قسمين :

أحدهما : كلّي غير متغير ؛

وثانيهما : جزئي متغير ، ولذا فرّع عليه في العبارة الثانية ـ بفاء التفريع ـ بأنّ علم الواجب بالجزئيات من القسم الأوّل ـ أي : الكلّي الغير المتغير ـ. ولو كان مراده من العبارة الاولى بيان  علم غير الواجب لم يكن لتفريع العبارة الثانية عليها معنى ، فالشيخ لمّا حكم في العبارة الاولى بأنّ العاقل للجزئي على النحو الكلّي ربما وقع الجزئي ولم تكن عنده احاطة بانّه وقع أو لم يقع وحكم في العبارة الثانية بأنّ علم الواجب بالجزئيات يجب أن لا يكون على الوجه الجزئي المتغيّر بل يجب أن يكون على الوجه المقدّس العالي عن الزمان والدهر ـ يعنى يكون على الوجه الكلّي الغير المتغيّر ـ فيحصل من مجموع هذين الحكمين : انّه يجوز أن يقع جزئي ولم يكن عند العاقل الأوّل ـ أعني : الواجب ـ احاطة بأنّه وقع أو لم يقع.

ثمّ إنّ بعضا آخر من الأفاضل قال : انّه لا ريب في أنّ غرض الشيخ بيان كلّية علم الواجب بالجزئيات ، وليس غرضه من مجموع هاتين العبارتين إلاّ تقسيم مطلق العلم إلى قسمين : كلّي غير متغيّر ، وجزئي متغير ، وجعل علم الواجب بالجزئيات من الأوّل. إلاّ أنّ كون علمه بها كلّيا متعاليا عن الزمان لا يوجب عدم علمه بالمشخّصات الجزئية والوجودات العينية ، نظرا إلى أنّ مناط الكلّية والجزئية بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك.

وحينئذ نقول : قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع ، أي : في الآن » ليس المراد به نفي علمه بهذا الوقوع الخاصّ حتّى يلزم عزوب الجزئي عن علمه ويتوجّه الكفر، لأنّ « الآن » ظرف للحكم لا للمحكوم عليه ، لأنّ غرض الشيخ ليس إلاّ نفي التغيّر عنه ـ تعالى ـ وعن علمه ـ سبحانه ـ ، وما يستلزم التغيّر في الحكم إنّما هو الأوّل ـ لأنّ حكمه بالوقوع أو عدمه في الآن بأن يكون الآن ظرفا للحكم يوجب كونه زمانيا ـ ؛ دون الثاني ، فانّ كون الآن ظرفا للمحكوم عليه وكونه ـ تعالى ـ عالما بأنّ هذا الآن ظرف لهذا المحكوم عليه لا يوجب تغيرا فيه ـ سبحانه ـ. فقول الخفري ـ ; ـ : « وهذا القول كفر صريح » ليس على ما ينبغى ، لأنّه إنّما يلزم أن يكون كفرا لو كان نفي الوقوع في الآن على أن يكون الآن ظرفا للمحكوم به ، وليس كذلك : لانهم إنّما قالوا بذلك النفي حذرا عن لزوم التغير ، وظاهر انّه لا يلزم التغير على هذا التقدير ـ أعني : تقدير كون الآن ظرف للمحكوم عليه ـ ، بل إنّما يلزم التغير على تقدير تعلّق الظرف بالحكم ، فهو المنفي.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : انّه لا ريب في أنّ التأمّل في هاتين العبارتين يفيد أنّ مراد الشيخ منهما ليس إلاّ بيان أنّ علم الواجب الأوّل ـ سبحانه ـ بالجزئيات كلّي غير متغير مقدّس عن الزمان والدهر ، وأمّا كون هذا العلم الكلّي بحيث لا يخرج عنه شيء من المشخّصات والمخصّصات الجزئية والوجودات العينية أو لا يخرج عنه شيء منهما فلا يعلم منهما صريحا ـ كما في أكثر عبارات القائلين بالحصول ـ. نعم! ، الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة بأنّه وقع أو لم يقع » : انّه ـ سبحانه ـ لا يكون عالما بأنّ هذا الشيء الخاصّ وقع في الآن أو في الوقت الفلاني أو لم يقع ، كما فهمه العلاّمة الخفري ـ ; ـ وكفّر قائله للزوم خروج بعض الأشياء حينئذ ـ وهو كون الحادث الفلاني موجودا في الوقت الفلاني ـ من علمه ـ تعالى ـ. وما نقلنا من القول بكون الآن أو الوقت ظرفا للحكم دون المحكوم عليه خلاف الظاهر من العبارة ، لأنّه على تقدير تعلّق الظرف بالمحكوم عليه دون الحكم يكون المراد إنّ حكم الواجب بالوقوع أو اللاوقوع ليس زمانيا متعلّقا بهذا الآن أو الوقت الخاصّ وإن كان المحكوم عليه زمانيا متعلّقا بذلك وكان الواجب عالما بذلك ؛ ولا ريب في أنّ الظاهر من قوله : « ولم يكن عند العاقل الأوّل احاطة ـ ... إلى آخره ـ » : إنّ الأوّل ـ تعالى ـ ليس عالما بوقوعه في الآن أو الوقت الفلاني وتعلّقه بهما.

وإذا احطت بما ذكرناه هنا وبما قرّرناه فيما سبق لا اظنّك شاكّا في أنّ مذهب الحصوليين إنّ علم الواجب بالجزئيات كلّي ، وكون ذلك كفرا مبني على أنّه هل يخرج عنه بعض الأمور أم لا. وقد عرفت انّه قد وقع الخلاف في ذلك بين المتأخّرين ، فجلّهم وجّهوا كلام الحصوليين وقالوا : إنّ مناط الكلّية والجزئية عندهم بنحو من الادراك لا التفاوت في المدرك ؛ وبعضهم قالوا : إنّ ذلك باطل ـ لظهور التفاوت بين المدرك بالإدراك الكلّي والمدرك بالإدراك الجزئي ـ، ولم يأت شيء من الفريقين بما يظهر منه حقيقة الحال. فالمهمّ هنا بيان ذلك ـ أي : بيان انّ مناط الكلّية والجزئية هل بمجرّد نحو من الادراك دون التفاوت في المدرك حتّى لا يخرج شيء من الجزئيات المعلومة بالعلم الكلّي أو بالتفاوت في المدرك حتّى يخرج شيء منها ـ.

فنقول لتحقيق ذلك : لا ريب في أنّ الجزئي هو الكلّي بانضمام التشخّص ؛ فكلّ جزئي إن علم بانّه الجزئي يكون معلوما بطبيعته وشخصه ، وإن علم بالنحو الكلّي يكون معلوما بطبيعته دون شخصه ، فلا بدّ لنا من بيان انّ التشخّص هل هو أمر محقّق في الواقع خروجه مستلزم لخروج أمر عن علمه ، أم لا. فلا بدّ لنا أوّلا أن نذكر انّ التشخّص ما ذا؟ ، ثمّ نشير إلى أنّ خروجه عن العلم هل هو خروج أمر محقّق عن علمه ويلزم منه الكفر ، أم لا؟.

فنقول : قد ذهب جماعة إلى أنّ التشخّص أمر موجود في الخارج زائد على الماهية ينضمّ إليها وتصير الماهية به جزئية حقيقية وشخصية ، ونسبته إلى الماهية نسبة الفصل إلى الجنس. وذلك الأمر لا ماهية له كلّية ليحتاج الى تشخّص آخر ، واشتراكه بين التشخّصات ليس إلاّ مفهوم عرضي. وذهب  جماعة من المحقّقين إلى أنّ التشخّص الموجود أمر اعتباري نفس أمري غير زائد في الخارج على الماهية المتشخّصة بمعنى أنّ الجاعل كما يجعل الماهية في الخارج بحيث تصير مبدئا للآثار ومصدرا للأحكام وينتزع منها العقل باعتبار تلك الحيثية مفهوم الوجود بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشأ في الخارج سوى ذلك الجعل فكذلك يجعلها في الخارج بحيث يمتنع اشتراكها بين كثيرين فيه ، وينتزع منها العقل باعتبار هذه الحيثية التشخّص بدون أن يكون لذلك الانتزاع منشئا في الخارج سوى ذلك الجعل ؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أنّ الوجود والتشخّص أمر واحد بالذات متغاير بالمفهوم والاعتبار ، وعلى هذا يكون التشخّص نحو الوجود المحقّق في الخارج ، وما به التشخّص لا يكون إلاّ نفس كون الماهية مرتبطة بجاعلها الحقّ المشخّص بذاته ارتباطا خاصّا بها ، كما أنّ ما به الوجود ليس إلاّ كونها مرتبطة بجاعلها الموجود بنفس ذاته كذلك. وامّا العوارض المكتنفة بالشّخص فليس إلاّ أمارات للتشخص. وأمّا المادّة والمادّيات فليست إلاّ معدّة للماهية لقبول الارتباطات المختلفة بالجاعل الحقّ ، فالشخص ليس إلاّ الماهية المجعولة المرتبطة بجاعلها على وجه خاصّ. فالعقل إذا اعتبر الماهية من حيث هي هي بدون هذا الارتباط الخاصّ يجوّز اشتراكها بين كثيرين بأن يكون لها في الخارج انحاء ارتباطات بالجاعل ، فهي من هذه الحيثية تكون كلّية مشتركة بين كثيرين واعتبرت في الخارج مرتبطة بالجاعل بارتباط خاصّ لا يجوز ذلك الاشتراك ، فهي من هذه الحيثية تكون جزئيا حقيقيا وشخصيا ، فمناط الجزئية والكلّية هو ذلك الارتباط الخاصّ وعدمه ، فكل ماهية واقعة في الخارج ومرتبطة بالجاعل بما هي واقعة فيه ليست إلاّ جزئيا حقيقيا ممتنعا فرض اشتراكه بين كثيرين ـ سواء ادركت أو لا ـ ، ولا يكون كلّيا إلاّ إذا ادركت واعتبرت من حيث هي هي.

وإذا علمت ذلك فاعلم! : انّ جماعة من المحقّقين ـ كالمحقّق الدواني وصدر المحقّقين وأمثالهما ـ زعموا أنّ تشنيع المتأخّرين على الحكماء في نفيهم علمه ـ تعالى ـ بالجزئيات على الوجه الجزئي واثبات علمه ـ تعالى ـ بها على الوجه الكلّي مبني على زعم الجماعة الاولى القائلين بزيادة التشخّص على الماهية في الخارج ، لأنّه لا شبهة في أنّ علمه إذا كان على النحو الكلّي دون الجزئي لا يخرج عنه التشخّص والتشخّص إذا كان أمرا زائدا على الماهية في الخارج فيصدق أنّ بعض الأمور الحقيقية الخارجية خارج عن علمه. قال المحقّق الدواني في مبحث التشخّص في حواشيه القديمة بعد تقرير مذهب القائلين بزيادة التشخّص : ثمّ إن ذلك الأمر ـ أعني : الأمر الّذي يسمّونه تشخّصا ـ في المادّيات يكون مادّيا لا محالة ، فيلزم أن لا يحصل العلم بها للمبادي العالية ، وهذا هو منشأ التشنيع على الحكماء بانّهم ينفون علم الواجب بالجزئيات وانّهم لا يعتقدون احاطة علمه ـ تعالى ـ بجميع المعلومات ـ تعالى عن ذلك ـ. ثمّ بيّن انّه ليس في الممكنات تشخّص لا يكون حقيقة نوعه امّا منحصرة في فرد أو منتشرة في افراد ولا يوجد ما يسمّى تشخّصا يكون بنفس حقيقته جزئيا. ثمّ قال : ثمّ ان تلك الحقائق إذا ادركت بالحواسّ كان صورها الادراكية جزئية وإذا ادركت بالعقل كان صورها كلّية ، فالاختلاف في الكلّية والجزئية لاختلاف نحو الادراك لا لاختلاف المدرك. وادراك الواجب يتعلّق بجميعها على وجه التعقّل ، فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فحاصل كلام الحكماء نفي التخيل والإحساس عنه ـ تعالى ـ واثبات ادراك جميع الموجودات له على نحو التعقّل الصرف المقدّس عن الشوائب والقصور ؛ انتهى.

وقال صدر المحقّقين في هذا المبحث : ليس التشخّص الجوهري مثلا إلاّ الماهية النوعية المقترنة بالكمّ والكيف والوضع وغيرها من المقولات التسعة العرضية ، ولا يدخل فيه أمر زائد على الماهية النوعية. ولذلك إذا سئل عنه « بما هو؟ » يقع النوع في الجواب ، فانّ ادراك الشخص المذكور بالحسّ كان تصوّره مانعا عن فرض الشركة وإن ادرك لا بالحسّ كان تصوّره غير مانع من فرضها ، وإن كان المدرك واحدا في الصورتين. مثلا إذا علّمت لمخاطبك ما علمته بالحسّ وقلت مثلا قطرة الماء المتقدّرة بالمقدار الكذائي في الأين الفلاني ـ إلى غير ذلك ـ حتّى يدرك المخاطب قطرة ماء متصفة بجميع الصفات الّتي ادركت القطرة متصفة بها في الحسّ فتصوّرك للقطرة المذكورة يمنع الشركة وتصوّر مخاطبك لا يمنع عنه ، مع أنّ المتصوّر واحد. فظهر أنّ منشأ المنع المذكور هو الادراك الحسّى الّذي يخصّصه بحيث يصير جزئيا ، كيف لا وتصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ كان مانعا عن فرض الشركة فيه وإن كان أكثر صفاته ـ بل مهيته أيضا ـ مجهولة له حينئذ.

وإذا عرفت أنّ تصوّر معنى واحد قد يكون مانعا عن فرض الشركة فيه وقد لا يكون مانعا عن فرضها بحسب نحوي الادراك فاعلم : أنّ ما ذهب إليه الحكماء من أنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على الوجه الكلّي اشارة إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بالجزئي على النحو الثاني ؛ ولا يلزم من ذلك أن يخرج عن علمه الشامل مفهوم الجزئي ـ كما توهّم بعض الناس وشنع على الحكماء بذلك ـ ، بل جميع المفهومات ـ جزئيا كان أو كلّيا ـ معلوم له ـ تعالى ـ بجميع الوجوه. غاية الأمر إنّ علمه بالجزئي لا يمنع عن فرض الشركة كما لا يمنع المخاطب في المثال المضروب عنه ؛ ولا محذور في ذلك ؛ انتهى.

أقول : حاصل كلام هذين المحقّقين أنّ ما يدرك بالعقل يكون كلّيا وما يدرك بالحسّ يكون جزئيا وان كان المدرك في الصورتين واحدا ، فمناط الكلّية والجزئية هو الادراك بالعقل أو الحسّ ولا يعزب عن الادراك العقلي ما يكون مدركا في الادراك الحسّى ، بل المدرك واحد وان كان أحد الادراكين غير مانع عن فرض الاشتراك والآخر مانعا عنه.

غير خفي بأنّ هذا الكلام ممّا لا يروي القليل ولا يشفي العليل!.

ويرد عليه : انّه لا يشكّ عاقل في أنّ أحد الادراكين إذا لم يكن مانعا عن فرض الشركة والآخر كان مانعا عنه يلزم البتّة أن يتحقّق في الادراك الثاني ما لا يتحقّق في الادراك الأوّل حتّى يكون ذلك مصحّحا ومنشئا لمانعية الاشتراك. ومجرّد اختلاف المدرك بكونه عقلا في الأوّل ونفسا في الثاني لا يصحّح ذلك ، لا بأن ينكر كون ادراك العقل كلّيا وادراك الحسّ جزئيا. ولكن نقول : مناط الفرق بين الكلّية والجزئية لا يمكن أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالكسر ـ بأن يكون كلّما يدركه العقل كان كلّيا وكلما يدركه الحسّ كان جزئيا ، وإلاّ لم يكن للعقل أن يدرك الجزئيات مع انّه يدركها بالعلم الحضوري الانكشافي ـ كما لا يخفى ـ ، فلا بدّ أن يكون بالتفاوت في المدرك ـ بالفتح ـ. والحاصل : إنّ تحقّق المنع عن فرض الشركة في الادراك الجزئي وعدمه في الادراك الكلّي لا بدّ له من مقتض ؛ والمقتضي إمّا أن يكون من جانب المدرك ـ بالكسر ـ أو من جانب المدرك ـ بالفتح ـ ؛ والأوّل باطل ـ لما ذكر ، ولأنّ المدرك سواء كان عقلا أو غيره إذا ادرك الشيء بجميع خصوصياته ومشخّصاته وبنحو وجوده الخارجي فمع ذلك لا معنى لكونه مشتركا بين كثيرين ـ ، فيثبت الثاني ـ أعني : كون المقتضي من جانب المدرك بالفتح ـ ، وما هو إلاّ إدراك أمر فيه لا يدرك هذا الأمر في الادراك الكلّي ، وهو التشخّص الّذي به يصير الماهية جزئية.

إذا عرفت ذلك فتعلم أنّ الادراك الكلّي لا يتناول التشخّص ، بل التشخّص يخرج عنه ؛ فلا بدّ من التأمّل في أنّ خروج التشخّص هل هو مستلزم للتكفير أم لا؟.

فنقول : الحقّ انّ التشخّص ليس أمرا زائدا على الماهية في الخارج منضمّا إليها به تصير جزئية ، لأنّ كلّ ما يتصوّر من العوارض المنكشفة بالشخص وغيرها من الخصوصيات لها حقيقة كلّية ولا يوجد شيء يكون بنفس مفهومه جزئيا ، بل الجزئية (18) انّما يتحقّق بحصول الشيء في الخارج. فالحقّ أنّ التشخّص إنّما هو نحو الوجود الخارجي للشيء ـ أعني : نحو الارتباط بالجاعل ـ ، فمناط الجزئية الّتي هي من عوارض المفهوم إنّما هو ادراك ذلك النحو من الارتباط الواقعي ـ أعني : الادراك المرتبط بهذا النحو الخاصّ من الارتباط ـ ، ومناط الكلّية ـ الّتي هي أيضا من عوارض المفهوم ـ إنّما هو بالإدراك لا بهذا النحو ؛ فالأشياء الموجودة في الخارج بحسب انحاء وجوداتها الخارجية كلّها اشخاص. فان ادرك بالعلم الحصولي أو بالصورة الحاكية لنحو الارتباط الخارجي ـ كما في الصورة الخيالية ـ كانت جزئيات ، وإن ادركت بالصورة الغير الحاكية لنحو الارتباط ـ كأن تكون الصورة حاكية عن نفس الماهية لا عن نحو وقوعها وارتباطها بالجاعل الحقّ ـ كانت كليات ؛ فمناط الجزئية هو ادراك نحو الارتباط ـ سواء كان بالحسّ أو بغيره ـ ، ومناط الكلّية ادراك غير ذلك النحو من الارتباط.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّه على القول بالعلم الحصولي الكلّي يخرج عنه نحو الوجود الخارجي للأشياء وارتباطها الخاصّة بجاعلها ـ سواء كانت الأشياء ماديات أو مجردات ـ إذ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية عن نحو الوقوع الخارجي للأشياء وان كانت مجرّدة ؛ وحينئذ فلا وجه لتخصيص نفي علم الواجب والمبادي العالية على الوجه الجزئي بالماديات والحوادث الجزئية.

وما قيل : من أنّ النفي مختصّ بالماديات ـ لأنّ توهّم امتناع حكاية الصورة العقلية عن نحو الوجود الخارجي إنّما هو في المادّيات لا في المجرّدات ـ ؛ لا يخفى ضعفه.

وإذ ثبت انّه يخرج عن العلم الحصولي نحو الوجود الخارجي والارتباط نقول : لا ريب في أنّ من علم انّ العلم الحصولي مستلزم لذلك بأن يعلم انّ الصورة العقلية الكلّية غير حاكية عن نحو الوجود الخارجي ومع ذلك اعتقد به فيجوز تكفيره ، لأنّه اعتقد حينئذ جهله ـ سبحانه ـ بصفة واقعة ثابتة لجميع الأشياء ، لأنّ نحو الوجود الخارجي أمر محقق في نفس الأمر. وإن كان اعتباريا فليس اعتباريا محضا ، بل اعتباري نفس أمري له منشأ انتزاع في الخارج والواقع ، فخروجه عن علمه خروج أمر واقعي عن علمه. وان لم يعلم بذلك الاستلزام ـ بل توهّم انّ الصورة العقلية الكلّية حاكية عن نحو الوقوع الخارجي ـ فلا يجوز التكفير من هذه الجهة وإن صحّ التخطئة والتشنيع ، لأنّه حينئذ اعتقد ما هو الحقّ وإن أخطأ الطريق.

ثمّ نقول : لا ريب في أنّ الحكماء الحصوليين لم يتنبّهوا بالاستلزام المذكور وجزموا بأنّ الصورة العقلية حاكية عن التشخّص ومتناول له ـ سواء كان التشخّص نحو الوقوع الخارجي أو غيره ـ ، وفي عبارات الشيخ تصريحات بذلك كتصريحه بأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة وتصريحه بتعقّله للموجودات كلّها ـ حاصلها وممكنها وأزليها وأبديها وكائنها وفاسدها وكلّيها وجزئيها ـ إلى اقصى الوجود ، وتصريحه بأنّه ـ سبحانه ـ يعرف الشخص وأحواله الشخصية ووقته الشخصي ومكانه الشخصي ، وأمثال تلك العبارات في كلامه كثيرة ، وحينئذ لا يصحّ التكفير وان صحّ التخطئة والتشنيع.

ثمّ على ما اخترناه فادراك نحو الوقوع الخارجي إنّما هو بالعلم الحضوري ، فانّ جميع الجزئيات يمكن أن يدرك بالنحو الجزئي بالعلم الحضوري الاشراقي والممتنع ادراكها بالوجه الجزئي إنّما هو بالعلم الحصولي الكلّي.

فما ذكره المحقّق الدوانى والسيد السند من أنّ الادراك على الوجه الجزئي إنّما هو بالإحساس ظاهر الفساد.

والمثال الّذي أورده السيد السند فالتحقيق فيه : انّ علمك به إنّما يكون جزئيا ، لإدراكك نحو وقوعه في الخارج بسبب الإحساس لا لخصوصية الإحساس وعدم امكان ادراك القطرة جزئية بنحو آخر غير الإحساس ، إذ لو امكنك الاطّلاع الحضوري بها بدون الإحساس لأدركتها جزئية، ولو أمكنك تعليمك مخاطبك بذلك النحو من الوقوع لكان ادراكه أيضا جزئيا. وحينئذ يرد على ما تمسّك به ـ من أنّ تصوّر الشبح البعيد إذا كان بالحسّ ... إلى آخره ـ : انّ الادراك الّذي هو مانع عن فرض الاشتراك إنّما هو العلم بنحو وقوع الشيء في الخارج ، لا بمهيته أو بأكثر صفاته ، فحيث حصل لنا العلم بوجه وقوع الشبح في الخارج ـ سواء كان بالحسّ أو بالعلم الحضوري ـ كان جزئيا مانعا عن فرض الاشتراك ، وجهلنا بالماهية وصفاته لا يقدح في كونه ممتنع الاشتراك.

وممّا قرّرناه وحقّقناه من ذهاب الفلاسفة إلى العلم الحصولي ولزوم كونه كلّيا وخروج التشخص عنه ظهر بطلان توجيهين ذكرا من قبل الفلاسفة تأويلا لقولهم بكون علم الواجب بالجزئيات على الوجه الكلّي دون الجزئي ؛

أحدهما من المحقّق الطوسي ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا جزئي انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بالكلّية ـ أي : جميعها ـ بحيث لا يعزب عنه ـ تعالى ـ شيء عنها ، لا انّه ـ تعالى ـ يعلم بعضها ويعزب عنه بعض آخر ـ كما هو شأن الممكن ـ.

وقد تقدّم ما يرد على هذا التوجيه مفصّلا ونقلنا ما أورد عليه بأنّ في تأويل كلام الفلاسفة ـ سيّما المتأخّرين إليه ـ بحث من وجهين ، وبينّا وجهي البحث بما لا مزيد عليه.

وثانيهما من صاحب المحاكمات وبعض آخر ، وهو : انّ مرادهم بالقول بأنّ واجب الوجود يعلم الجزئيات بوجه كلّي لا بوجه جزئي : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات بوجه يشابه الكلّي في أن لا يتغيّر العلم بها.

ويرد عليه ـ مضافا على ما أورد على التوجيه الأوّل ـ : شدّة بعد حمل العبارة عليه ، لأنّ الانتقال من « وجه كلّي » أو « الوجه الكلّي » إلى « وجه يشابه الكلّي » من قبيل الانتقال من اللفظ إلى المعنى لا دلالة له عليه بإحدى الدلالات ، وإنّما كان الانتقال ممكنا لو كان العبارة « على الوجه الكلّي » أو « على وجه كلّي » على سبيل الاضافة دون التوصيف.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ القول بالعلم الحصولي الكلّي باطل ، وكذا القول بالعلم الاجمالي والتفصيلي ؛ وانّ الحقّ المختار هو انّ علم الواجب ـ سبحانه ـ علم واحد حضوري تفصيلي فعلي غير زماني وغير متغير ومتجدّد ومقدم على ايجاد الأشياء يعلم به الأشياء ـ كلّياتها وجزئياتها ـ على الوجه الجزئي أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغيّر وتجدّد ، وانّ علمه المتعلّق بالأشياء اضافة اشراقية إنكشافية وليس فيه تغيّر بالنسبة إلى ذاته ، ومناط هذا الانكشاف مجرّد ذاته الحقّة ، وليس هذا الانكشاف حادثا بحدوث الأشياء ـ كما زعمه الخفري ـ ; ـ ونسبه إلى المحقّق الطوسي ـ ، وانّ مصحّح انكشاف الأشياء وحضورها بأنفسها عنده قبل وجودها العيني مع توقّفه على الوجود الخارجي هو كونها لوازم ذاته ومقتضيات وجوده مع كونها ثابتة له ـ تعالى ـ في الأزل وإن لم يوجد فيه ـ على ما مرّ مفصلا ـ. وهو الّذي دلّ عليه قواطع البرهان ويشهد به شواهد القرآن ونطقت به الاخبار الواردة عن النبي وآله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام .

__________________

(1) الاصل : كيف.

(2) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.

(3) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.

(4) الاصل : ثالثها.

(5) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة العاشرة ، ص 38.

(6) ما عثرت على هذه العبارة في متن التجريد.

(7) راجع : المسألة الثانية من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 222.

(8) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة العاشرة ، ص 40.

(9) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 305.

10) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 316.

(11) الاصل : + في.

(12) راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص 313.

(13) راجع : الشفا / الالهيات ، ص 359. وبين العبارة المنقولة في المتن وما في المصدر اختلاف بيّن.

(14) راجع : تهافت الفلاسفة ، المسألة 13 ، ص 231.

(15) راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، ج 3 ص 307.

(16) راجع : نفس التعليقة السالفة.

(17) راجع : المحاكمات ـ المطبوع في ذيل شرح الطوسي على الاشارات ـ ، ج 3 ص 311.

(18) الاصل : بل الجزئية.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.

خلال الأسبوع الحالي ستعمل بشكل تجريبي.. هيئة الصحة والتعليم الطبي في العتبة الحسينية تحدد موعد افتتاح مؤسسة الثقلين لعلاج الأورام في البصرة
على مساحة (1200) م2.. نسبة الإنجاز في مشروع تسقيف المخيم الحسيني المشرف تصل إلى (98%)
تضمنت مجموعة من المحاور والبرامج العلمية الأكاديمية... جامعتا وارث الأنبياء(ع) وواسط توقعان اتفاقية علمية
بالفيديو: بعد أن وجه بالتكفل بعلاجه بعد معاناة لمدة (12) عاما.. ممثل المرجعية العليا يستقبل الشاب (حسن) ويوصي بالاستمرار معه حتى يقف على قدميه مجددا