ازدهار تجارة البخور واشتداد التنافس من أجل السيطرة عليها:

يمكن القول إنه بعد خروج المعينين إلى أسواق الشرق الأدنى القديم، بوقت ليس بالطويل فإنهم واجهوا منافسة شديدة من تجار يمثلون مناطق مختلفة؛ من غزة ومن جرهاء ومن الجزر اليونانية- وربما من أولئك الذين أسكنهم كسرى فارس: قورش في مناطق دجلة- بحسب ديودور الصقلي ( (XVII,110,4-5ومن غيرها. وصل هؤلاء التجار إلى شبه الجزيرة العربية إما عن طريق البحر (استخدموا القناة التي شقها دارا الأول وربطت بين النيل والبحر الأحمر)، أو عبر البر. وعلى العموم لم تشكل تلك المنافسة خطراً فعلياً على التجارة المعينية في ذلك الوقت، ولكنها ظهرت كمنافس حقيقي في ما بعد. لقد كان لموقع بلاد العرب الجنوبيين الملائم، بوصفه مصدراً لسلعة الصلات التجارية بين جنوب شبه الجزيرة العربية ومناطق الهلال الخصيب ومصر خلال الألف الأول قبل الميلاد البخور إلى مناطق العالم القديم، أ ووسيطاً تجارياً بين الهند ومناطق حوض البحر المتوسط، أن لعب هذا الموقع أدواراً مهمة في التبادل التجاري والثقافي بين حضارات جنوب أسيا والشرق الأدنى وحوض المحيط الهندي ومنطقة حوض البحر المتوسط. وساعدت كذلك الظروف المناخية بلاد العرب الجنوبيين أن تحتكر لنفسها هذا الدور.

بمعنى آخر لقد كانت معرفة نظام الرياح الموسمية (الرياح التجارية) التي تهب في شمالي المحيط الهندي، في الشتاء وفي الصيف، أن ساعدت السفن التجارية على الإبحار مباشرة من الموانئ الغربية للهند، إلى موانئ الشواطئ الجنوبية الغربية لشبه جزيرة العرب، وكان يتم الإبحار في هذا الاتجاه في الشتاء والربيع، وفي الاتجاه المعاكس صيفاً. الأمر الذي وظفه العرب الجنوبيون بصورة فعالة في المساهمة الحضارية مع بقية دول العالم القديم في حوضي المحيط الهندي والبحر المتوسط. وبذلك استفاد الهنود والعرب من هبوب الرياح هذه، والاتجار مع شمال شرقي أفريقيا، فضلاً عن استفادة العرب من تجارة الترانزيت(المرور).

ومع ذلك لم تستمر تجارة الهند وبلاد العرب الجنوبيين، مهنة خاصة بقاطني هاتين المنطقتين، فقد أثارت تلك التجارة دولاً إقليمية مختلفة، حاولت أن يكون لها دولاً تابعة على طريق التجارة بين الهند والعربية الجنوبية وشمال شرقي أفريقيا. ففي بداية القرن السادس ق.م. وبأمر من فرعون مصر نينخو فُتِح من جديد الطريق البحري من مصر عبر البحر الأحمر حتى المحيط الهندي، كما دار حول أفريقيا الفينيقيون بناء على طلب الفرعون ذاته (1) خلال هذه الرحلة تم البحث عن خط مناسب من النيل إلى البحر الأحمر (2) وعنه كتب شارل عيساوي يقول: " كان هذا التركيز على الصناعة والتجارة أمراً فريداً من نوعه في العصور القديمة"(3) وأشار غوردون تشايلد" إلى أن نسبة الذين عملوا بالصناعة والتجارة من الفينيقيين كانت أكبر بكثير من الذين عملوا بها في مصر وبابل وآشور وبلاد الرافدين، حيث كانت الزراعة تسيطر على مجمل النشاط الاقتصادي" (4) وقد انعكس ذلك الهيكل الاجتماعي على المؤسسات السياسية الفينيقية. بعد أن سيطر الفرس على مصر أرسل الملك دارا الأول، عند ملتقى القرنين السادس والخامس ق.م.، أحد البحارة الإغريق(كان يدعى؛ سكيلاك)، مع بعثة مرافقة لغرض التأكد من الخط البحري بين الهند ومصر. وقد وفٍق سكيلاك بالإبحار من نهر السند(الهند) عبر البحر العربي ثم البحر الأحمر قرب سواحل الجزيرة العربية حتى مصر. وقد استغرقت هذه الرحلة نحو ثلاث سنوات (5).

ثم استكمل شق قناة تربط بين النيل و البحر الأحمر في عهده أيضاً. ويجب أن نضيف أنه في عهد الإمبراطورية الفارسية، التي امتدت إلى الشرق كله،"ربطت الطرق وخطوط البريد الممتازة بين الأقاليم المختلفة والحاضرة. كما تم توحيد القياس والوزن وسك عملات ذهبية وفضية موحدة لكل الأقاليم (6) نتيجة لذلك، شهدت التجارة اتساعاً كبيراً. وهنا يقول غيرشمان:" لقد تجاوز حجم التجارة في القرنين السادس والخامس ق.م. أي مقدار عرف في ما سبق في منطقة الشرق القديم، غير أن أهم ما تميزت به التجارة هو أنها كانت تركز بالأساس على المنتجات العادية المستخدمة في الحياة اليومية، وعلى الأدوات المنزلية والملبوسات الرخيصة، ومن ثم اتجه تطور الصناعة إلى خدمة كل طبقات المجتمع في الإمبراطورية" (7) كما يبدو أن التجارة مع الأقاليم الأخرى كانت على نطاق أوسع من ذي قبل، خاصة مع الهند وجنوبي الجزيرة العربية واليونان (8).

________________

(1) كان ذلك في عام 600 قبل الميلاد تقريباً؛ انظر: , 42- IV، Herodotus, The Persian Wars, translated by George Rawlinson with an introduction by Francis R.B.Godolphin, Modern

Library; 255 (New York; Modern Library, 1947, : p.306.

(2) لمحات من تاريخ أفريقيا، موسكو 1978، ص 125.

(3) شارل عيساوي، تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، ط1

1991، ص 60.

(4) Gordon Child, What Happened in History, A Pelican Book (Harmodsworth, Eng Penguin Books, 1942), p. 146.

(5) نفسه.

(6) شارل عيساوي، المرجع السابق.

(7) R. Ghishman.Iran (London: "n.pb.",1952),pp.186 and181-188.

(8) Mikhail Rostovtsev, The Social and Economic History of Hellenistic

World,3vols.(Oxford: Clarendon Press,1941), vol. 1, pp.83-90.