جرت محاولات جادة وصادقة لإنعاش الخلافة العباسية وإعادة هيبتها من خلال التحرر من السيطرة السلجوقية، واهم تلك المحاولات محاولة الخليفة المسترشد بالله (1) (512هـ/1118م-529هـ/1134م) الذي عمـل على إضعاف السيطرة السلجوقية (2).

ان هذا الاتجاه الذي تبناه الخليفة المسترشد بالله يعد بداية مرحلة الانتعاش في مؤسسة الخلافة بعد ان تطاول السلاجقة على تلك المؤسسة وسلبوا معظم صلاحياتها، وقد دل على هذا التطاول قول المسترشد بالله "فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق فبغوا علينا، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثيراً منهم فاسقون" (3).

ومن مؤشرات استعادة هيبة الخلافة العباسية أن المسترشد بالله قد احكم أمره على معظم المناطق ومنها مدينة الحلة، حيث أنفذ اليها خادمه (إقبال) (4) مع عشرة آلاف فارس من العرب والترك والأكراد ولقبه (حسام الدين سلطان الأمراء) (5) . وبذلك امتدت سلطة الخلافة العباسية الى أماكن كانت غير قادرة على الوصول اليها في ظل سيطرة السلاجقة.

وبعد وفاة المسترشد بالله (ت، 529هـ/1134م) (6)، جاء بعده ابنه الراشد بالله (7) (529هـ/1134م-532هـ/1137م) الذي سار على نهج أبيه في إنعاش الخلافة واضعاف السلاجقة، وبعد وفاته (ت، 532هـ/1137م) ٍ(8)، جاء ولده المقتفي بالله الذي اظهر حماسة واضحة لمتابعة ما سبقه والده وجده فيه وهو تقليل سطوة السلاجقة على مؤسسة الخلافة (9)، وقد كان هذا الخليفة " فاضلاً أدبياً شجاعاً كاملاً، خليقاً للخلافة قليل المثل، مقدماً يباشر الحروب بنفسه" (10). ولذلك هابه السلاجقة واخذوا يفكرون جدياً في التخلص منه، اذ جاء في قول السلطان مسعود بن محمد (ت، 547هـ/1152م)، " لقد أجلسنا في الخلافة رجلاً عظيماً فالله تعالى يكفينا شره" (11). مما يدل على وجود مثل هذا التوجه عند السلاجقة، وبالفعل أمر السلطان السلجوقي مسعود بن محمد سنة (535هـ/1140م) احد أعوانه المعروف بجهاز دنكي والبقش كون خر بالتوجه الى الحلة للسيطرة عليها ففشلوا ثم ساروا إلى واسط، ولكن تناصر أهلها حال دون دخولها لأنهم رأوا في ذلك محاولة أخرى لإعادة السيطرة السلجوقية على مدينتهم، وكان لمعاضدة الخليفة المقتفي لأمر الله دور واضح في هذا التصدي (12).

ولكن مع ذلك لم يتوقف السلاجقة عند هذا الفشل وإنما أعادوا الكرة مرات أخرى ومنها أقطاع السلطان مسعود بن محمد مدينة الحلة الى (سلاركرد) (13) سنة 542هـ/1147م حيث سار اليها من همذان ومعه العسكر والتحق به جماعة من عسكر بغداد فقصدوا الحلة، فالتقى بهم الأمير علي بن دبيس (ت، 545هـ/1150م) بمنطقة (مطير اباذ) محاولاً أبعادهم عن المدينة ولكن كانت النتيجة انهزام علي بن دبيس وملك سلاركرد الحلة وأقام بها هو وأصحابه فاستنجد علي بن دبيس بشحنة واسط فتمكن من طرد سلاركرد في ذي الحجة من السنة ذاتها (14).

وبعد ان استقر الأمر لعلي بن دبيس، انتهج سياسة أسلافه في مُناوَأة حكم السلاجقة واضعافهم، ففي سنة 543 هـ/1148م وقف الى جانب الأمراء المعارضين للسلطان مسعود (15)، واستمر على ذلك النهج حتى وفاته سنة545هـ/1150م (16) بمنطقة (أسد آباذ) (17) وبموته كانت نهاية الامارة المزيدية التي دام حكمها قرن ونصف (387هـ/997م -545هـ1150م).

_________________

(1) المسترشد بالله : ابو منصور بن احمد المستظهر بالله بن المقتدر بامر الله ، بويع للخلافة سنة512هـ استمر في ولاية الى ان قتل على يد جماعة من الباطنية سنة 529هـ ، كان له خط بديع ونثر صنيع ، وشهامة وشجاعة. الذهبي: سير أعلام النبلاء ،19/561.

(2) ابن الطقطقي، محمد بن علي: الفخري في الآداب السلطانية، (دار صادر، بيروت، 1960م)،221؛ الديار بكري، حسين بن محمد بن الحسن : تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، (دار صادر، بيروت ،بلا.س)، 361 ؛ الصدفي، رزق الله منقريوس : تاريخ دول الاسلام، (مطبعة الهلال، مصر، 1923م)، 1/158-159 ؛ القزاز، محمد صالح داود : الحياة السياسية في العراق في العصر العباسي الأخير(512-656هـ)،(مطبعة القضاء، النجف، 1971م)،40؛ فهد، بدري محمد: الخلافة العباسية بين أواسط القرن الخامس والسابع، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثاني والخمسون،(1995م)، 112-113؛ للمزيد ينظر: الجميلي، حسين حديس جاسم الجميلي: عصر الخليفة المسترشد (512-529هـ)،أطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الآداب، جامعة الموصل، 1999م، 23-33.

(3) أمين: تاريخ العراق، 141.

(4) إقبال: ويسمى إقبال المسترشدي كان من المقربين للخليفة المسترشد بالله، كلفه الخليفة سنة 518 بالحج بالناس، خلع عليه خلع الملوك ولقبه (ملك العرب). ابن كثير : البداية والنهاية، 12/239.

(5) ابن العمراني، محمد علي: الأنباء في تاريخ الخلفاء، تحقيق قاسم السامرائي، (مطبعة ليدن، 1973م)،217.

(6) ابن الجوزي: المنتظم، 17/298 ؛ ابن الكازروني، ظهير الدين علي بن محمد: مختصر التاريخ من أول الزمان الى منتهى دولة بني العباس، تحقيق مصطفى جواد، (مطبعة الحكومة، بغداد، 1970م)، 221 ؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد مصطفى، (مطبعة دار الفجر للتراث، ط2، القاهرة، 2004م)، 540؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/362؛ ابن العبري ، جمال الدين أبي الفرج : تاريخ الزمان، ترجمة اسحق أرملة، (مطبعة دار المشرق، بيروت، 1986م)، 147.

(7) الراشد بالله: ابو جعفر منصور بن المسترشد بالله بن المستظهر ،ولد سنة 502هـ،خطب له بولاية العهد سنة 513هـ،واستخلف في سنة 529هـ،كان المستولي على الملك أيامه السلطان مسعود السلجوقي ،فنشبت فتنه بينهما فخلعه السلطان مسعود سنة 530هـ بفتوى فقهاء بغداد ،بقى يتنقل بين بغداد والري إلى إن اغتاله الباطنية. ابن كثير: البداية والنهاية،11/259 ؛ الزركلي: الاعلام ،7/302 .

(8) مؤلف مجهول: أخبار الدولة العباسية، تحقيق عبد العزيز الدوري وعبد الجبار المطلبي، (مطبعة دار الطليعة، بيروت،1971م)،413؛ الذهبي: تاريخ الاسلام،9/568؛ ابن كثير: البداية والنهاية،12/259؛ ابن العبري: تاريخ الزمان، 149.

(9) حسن، صالح رمضان: مقاومة الخلافة العباسية للنفوذ السلجوقي في العراق(512-555هـ)، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الآداب، جامعة الموصل، 1987م، 207.

(10) الذهبي: المختصر المحتاج اليه من تاريخ ابن الدبيثي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطار (مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت،1997م)،6؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء،20/399؛ ابن كثير: البداية والنهاية؛ 12/361؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/362؛ حسن علي ابراهيم، التاريخ الإسلامي العام، (مطبعة مكتبة النهضة،القاهرة،1960م)، 468.

(11) البنداري: تاريخ دولة الـ سلجوق، 203. مسعود بن محمد: غياث الدين مسعود بن محمد بن ملكشاه، نشأ بالموصل بعد ان سلمه والده سنة (505هـ) الى الأمير مودود صاحب الموصل وبعد مقتله سلم الى البرسقي ومن بعده الى خوش بك، تسلم السلطنة سنة 528هـ وتوفي سنة 547هـ. الذهبي: سير اعلام النبلاء، 20/385 .

(12) ابن الأثير: الكامل،9/317.للمزيد ينظر: حسون ،محمد ضايع: الخلافة العباسية دراسة في أحوالها السياسية والإدارية والاقتصادية(530-575هـ)،رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الآداب، جامعة بغداد،1988،17 وما بعدها.

(13)  سلاركرد: من أكابر أمراء السلطان مسعود بن محمد، تولى منصب الشحنة في بغداد. الاصفهاني: تاريخ دولة الـ سلجوق، 337.

(14) ابن الجوزي: المنتظم، 18/56؛ ابن الأثير: الكامل، 9/292؛ الذهبي: تاريخ الاسلام،37/10؛ المشهداني، محمد جاسم حمادي: نهاية النفوذ السلجوقي في العراق، مجلة المؤرخ العربي، العدد الخامس والعشرين، (1984م)، 199-200؛ حسون: مقاومة الأمارة المزيدية للاحتلال السلجوقي، مجلة جامعة بابل، العدد الثاني، (2006م)،11/489.

(15) ابن القلانسي، أبو يعلي حمزة بن أسد بن علي بن محمد الدمشقي: ذيل تاريخ دمشق، (مطبعة الأباء اليسوعين، بيروت، 1908 م)،301-302؛ ابن الجوزي المنتظم،18/64

(16) أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، تحقيق محمود دبوب، (مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت،1997م)،2/92؛ ابن الوردي، زين الدين عمر بن مظفر: تاريخ ابن الوردي،(مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت،،1996م)، /49؛ ابن تغري بردي ،جمال الدين ابي المحاسن يوسف: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،(مطبعة دار الكتب،القاهرة،1975م)، 5/299.

 (17) اسد اباذ: مدينة بينها وبين همذان مرحلة نحو العراق. الحموي: معجم البلدان ،2/545.