المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

بمختلف الألوان
ـ نشأ أميرُ المؤمنينَ وسيِّدُ الوصيّينَ عليُّ بن أبي طالبٍ (عليه السّلام) منذُ نعومةِ أظفارِهِ في حِجرِ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) وتغذَّى من مَعِينِ هَديهِ، وكانَ أوَّلَ المؤمنينَ بِهِ والمُصدِّقِين، وفدى النبيَّ بنفسِهِ حتَّى نزلَ فيهِ قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ... المزيد
أخر المواضيع
الرئيسة / مقالات اسلامية
علم أصول الفقه الاسلامي والقيم ، رؤية في العلاقة والتفاعلات
ان نسبة (القيم) الى (الانسانية) قد لا يكون دقيقا من ناحية علمية معرفية, لكن سلطة التداول في الساحة الثقافية تحتم علينا طرح المصطلح بهذه الصيغة, إذ تعد القيم مفهوما مجردا مستقلا عن أي إضافات أخرى, برغم تداول (القيم الدينية) أو (القيم الأخلاقية), وهو ما يستدعي إيضاح تلك الإطلاقات.
القيم كمفردة تدل على مجموعة معانٍ لها طابع كوني عام, مثل (الخير) و(الحق) و(الجمال) ويمكن أن ترجع فلسفة أو علم القيم (القيمة) أو نظرية القيم إلى كلمة أكسيوس axios اليونانية، وتدل على ما هو «قيم» أو «ثمين» أو «جديد»، والإكسيولوجيا axiology هو العلم الذي يبحث في ما هو «قيم» و»ثمين» و «جديد»، وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة القيم Philosophy of values أو نظرية القيم، أو القيمة.
ويعرّف عادل العوا القيمة ب أنّها «كل ما له شأو في التصور وفي الفعل لدى أفراد وجماعات». وكلمة شأو، باللغة العربية، تعني القيمة «الجدارة»، «الكمال» «الوزن» «والسعر» و»القدرة» و»الطاقة». والقيمة، مشتقة من القوام أي «العدل» وحسن الطول، وحسن القامة، وهي تعني في اللغة القدر، وقوم السلعة أي قدّرها، وفي القرآن الكريم (فيها كتب قيمة)، أي مستقيمة، تبين الحق من الباطل على استقراء وبرهان. وقوام كل شيء، ما استقام به، وقوام العيش: عماده، وقوام الجسم: تمامه.
ان القيم لا يمكن ان تكون متعارضة في مفاهيمها بل في مصاديقها وتطبيقاتها, فلا يختلف اثنان حول قيمة الخير, بل يختلفان حول خيرية فعل ما, لذا فإن نسبة القيم الى الاضافات (انسانية/دينية/اخلاقية) هي نسبة خاضعة للمجال العملي لا النظري, والقيم لا يمكن ان تكون إلا إيجابية, والصفة السلبية تضاف إلى الأخلاق مثلا, فيقال أخلاق حسنة وأخلاق سيئة, بحسب اقترابها او ابتعادها من القيم, أما الانسانية, فهي إضافة جديدة نسبيا, تولدت من تجارب الإنسان على مستوى الدين والفلسفة, والقيم الدينية يمكن تصورها من ناحية كونها قيما أكد عليها الدين وطبقها على مستوى الواقع العملي.
وإذا ما ربطنا القيم بالعقل العملي, نجد أن التحسين والتقبيح يكون في مستوى تطبيق القيم على الأفعال المتعددة, بمعنى أن التحسين والتقبيح منوط بالعمل, وهو بحد ذاته عملية انتقال من القيم بمستواها النظري الكوني الثابت والمسلم به إلى المستوى الواقعي العملي التطبيقي.
إن حضور القيم في المعرفة الفقهية على المستوى الإسلامي بحاجة إلى تأصيل ينطلق من فرضيات علم أصول الفقه, وهو ما يستدعي دراسة مستقلة حول إمكان التنظير للقيم في ثنايا البحث الأصولي عند الفقهاء المسلمين.

وقد يتردد علم أصول الفقه في بناه المعرفية بين قيمتي (الحق) و(الخير) وهي اشارة لم أجد –بحدود تتبعي- من تطرق لها, فـ(الحق) قيمة و(الخير) قيمة, وبغض النظر عن أيهما تابع إلى الآخر أو كونهما متوازيان, فإن منطق المعرفة الفقهية تأثر كثيرا بعلم الكلام الذي يتحرك هو الآخر وفق قيمة (الحق) فالتوحيد –على المستوى المعرفي- (حق) أكثر مما هو (خير), لذا نجد أن الفقه يتحرى جانب الإثبات والثبوت, ويتوخى ما هو ثابت وقطعي من الأدلة, وربما ابتعد عن قيمة (الخير) التي تعد من نتائج الحكم الشرعي, لذا فإن علم أصول الفقه يحاول الإجابة – في مجال الاستنباط طبعا- عن سؤال : (ما هو حق من الأحكام وما هو باطل) في حين لم يمارس السؤال فيما هو خير من الأحكام وما هو شر, وهل يحقق الحكم الشرعي -بعد عملية الاستنباط- الخير؟ هذا السؤال بحاجة إلى إعادة النظر في فلسفة أصول الفقه والمنطق الحاكم على الفكر الأصولي لتتم نقلة نوعية في البحث الأصولي من كونه علما منفعلا بمنطق الحق (الكلامي) الى منطق (الخير) الفلسفي/القيمي/الجمالي.. على أن تلك النقلة لا تلغي المرحلة السابقة, من توخي الحق في إثبات الأحكام الشرعية, بل تعد مرحلة مكملة لسابقتها بحيث يصبح الفكر الأصولي مهتما بتحقيق قيمة (الخير) وغيرها من القيم –الحرية, الرفاه, العدالة, المساواة..-
تتحدد علاقة الفقه بالقيم من خلال أن القيم ترتبط بالفعل الانساني, وتحدد من نوعه ومضمونه, والفعل الانساني في إطار قيمته يقع تحت تأثير عناصر هامة منها : (الحرية والمعتقد والقانون والأخلاق), وهذه الرباعية تمثل ميدانا خصبا لتناول تفاصيل العلاقة بين الفقه الاسلامي والقيم, وبما أن الفقه الاسلامي كوسيلة للمعتقد – بملحظ معين- فإنه بطبيعة الحال سوف يؤثر في قيمة الحرية الإنسانية, بعد افتراض كون الحرية أحدى القيم الأساسية التي تؤثر في واقع السلوك الإنساني, وتأثير الفقه الاسلامي بقواعده المتنوعة يتحدد في جانب التقييد لجزء أو نسبة من حرية الإنسان, ومدى ذلك التحديد يختلف بحسب وجهات اجتهاد الفقهاء, وقلما يتم الربط بين عناصر الطبيعة البشرية التي من ضمنها النزوع نحو الحرية ومدى علاقته بقيم الاستجابة الى قواعد وأحكام الشرع, وكيف تتشكل الروابط الانسانية بين البشر في ظل افتراض التقارب أو التباعد بين القيم والدين, اذ نحن أمام بوابة فلسفية كثيرا ما يتم إهمالها, والتي تقيم الاعتبار الى ما يؤول اليه انسان الدين أو انسان القيم..
قد يتسق الخطاب الفقهي مع القيم في عالم التنظير, لكن مؤثرات الإيمان الديني التي تلقي بمتطلباتها الخاصة على واقع السلوك الفقهي للإنسان, تتضح من خلال عوامل كثيرة منها الانحياز الإيماني على حساب الطبيعة البشرية في تغليب الذات العقدية, وذوبان المشترك الانساني أمام الانتماء للمقدس غير الثابت من حيث سعته وامتداداته.. حتى تبرز معادلة راهنة بين قيم الدين ودين القيم..
قد يبدو غريبًا لدى المعنيين بالمعرفة الدِّينيَّة افتراض المفارقة بين الفقه والقيم, مع ملاحظة أنَّ الفقه ينطلق من النَّصِّ الدِّينيّ (القرآن والسُّنَّة) الذي يؤسس لمنظومة القيم بعدّة صياغات, لكن المسألة تخضع لمجموعة من السيِّاقات المعرفيَّة التي يمكن أنْ تكشف فيما بعد عن وجود تلك المفارقة وفي بعض الجوانب على أقلِّ تقدير, ذلك أنَّ بعض مخرجات الفقه الإسلاميّ تكاد تفارق الواقع الإنسانيّ, عبر بروز بعض الإشكاليَّات التي تكرِّس دعوى ابتعاد الفقه الإسلاميّ عن القيم الإنسانيَّة وتركيزه على إحراز الملاك الشَّرعيّ والمراد الإلهيّ من الأحكام؛ إذ يتحرك العقل الفقهيّ في الغالب بين دلالات النصّوص الدِّينيَّة تحت ثنائيَّة (الحلال والحرام) التي أصبحت المعيار الأساس في تحديد غاية المعرفة الفقهيَّة, فالأخيرة تحاول الكشف عن حكم الله تعالى في المسائل الحياتيَّة من دون الوقوف على الجانب الغائيّ وطبيعة النتائج المترتبة على تطبيق أحكام الشَّرع, ومن دون الأخذ بنظر الاعتبار ما تحققه تلك الأحكام من قيم الخير والعدل, فعلى مستوى الكليات يسلِّم العقل الفقهيّ بأنَّ الشَّريِّعة الإسلاميَّة تضمن تحقيق القيم بمختلف عناوينها, لكن التفصيلات الجزئيَّة تكاد تخلو من هذا الهاجس, بل يغلب على التفكير الفقهيّ سمة التعبد بالنَّصِّ, مع أنَّ الأخير لا يتعارض مع أهمِّيَّة ملاحظة تحقق القيم وضمانها في الواقع الإنسانيّ.
يشير الدكتور عبّد الجّبار الرِّفاعي إلى إشكاليَّة الفقه والقيم عبر قوله: (لم يهتم أصولُ الفقه، وتبعًا له لم يهتم الفقه، بالمنظومة الأخلاقيَّة والمعايير القيميَّة ومجالاتها المحوريَّة وروافدها الملهمة، وأثر الضمير الأخلاقيّ في بناء الحياة الإنسانيَّة الأصيلة، ولم يحدِّد موقعَها في الشَّريِّعة الإسلاميَّة، على الرغم من أنَّ المنظومةَ الأخلاقيَّة والمعاييرَ القيميَّة منبثةٌ في سيِّاق الآيات باختلاف موضوعاتها. كذلك أهمل أصولُ الفقه، وتبعًا له أهمل الفقهُ، الدلالاتِ القرآنيَّةَ للحياة الروحيَّة، وتعبيراتها العميقة في الحياة، والروافد التي تستقي منها، ولم يحدّد موقعَها في الشَّريِّعة الإسلاميَّة، على الرغم من أنَّها تسري في سيِّاق الآيات باختلاف موضوعاتها كالمنظومة الأخلاقيَّة والمعايير القيمية), ويشير لهذا القول يحيى محمَّد من أنَّه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير؛ لأنَّ تطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهيَّة مع أحكامِ العقل الأخلاقيّ والمعاييرِ القيميَّة الإنسانيَّة المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنسانًا، وإنَّما المهم في منطق التفكير الفقهيّ أنْ تكون النتائجُ الفقهيَّة حاكيَّةً عن مقدِّماتها من القواعدِ الأصوليَّة والفقهيَّة وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍّ صحيح، وإنْ كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشَّريِّعة وأهدافِ الدِّين وقيمِه المعنويَّة ومعاييرِه الأخلاقيّة, وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهيّ, مع أنَّ النصّوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيميَّة, لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا إليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهيّ عبر ما أشرتُ إليه سابقًا حول تخصص الفقه وأنَّه علمٌ قائمٌ بقواعد خاصَّة بعيدة عن التنظير للقيم, ومع وعي حقيقة المشكلة فإنَّ مخرجات الفقه ربَّما تتعارض مع بعض القيم الراسخة, وهو ما يستدعي أنْ تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التَّشريِّع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيميّ في الشَّريِّعة الإسلاميَّة, وهو الجهد الذي طالما تم إهماله للأسف, فالحركة العلميَّة تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتَّشريِّع تعالج كلَّ ما يطرح من شبهات معاصرة حول الأحكام التي ينتجها الفقه, ولا يعني ذلك أنْ يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي؛ لأنَّ نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنسانًا، من أهمِّ أسباب إخفاق الإسلاميّين في بناء الدَّولة اليوم، بعد أنْ اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهيَّة مشجبَهم لتسويغ كلِّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدِّين من محتواه القيميّ الأخلاقيّ؛ لأنَّه يسهِّل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإنْ كانت لا أخلاقيَّة, على أنَّه ليس من المنصف تعميم نسيان الأخلاق على طول خط الممارسة الفقهيَّة لكن وجود بعض الإفتاءات التي تركِّز على الجانب الشكليّ للقضايا الفقهيَّة, هو ما يفضي إلى ظهور بعض الشبهات التي تنظر إلى الفقه بعيدًا عن جو القيم الإنسانيَّة, والجدير أنْ نلاحظ أنَّ المشكلة في الفهم لا في أساس التَّشريِّع, وكمثال على ضعف حضور القيم الإنسانيَّة في التفكير الفقهيّ هو ما آلت إليه فتاوى التكفير من مختلف المذاهب الإسلاميَّة, يكتب الفقيهُ الإماميّ الإخباري المعروف يوسف البحراني في (الحدائق الناظرة): «ينبغي أنْ يُعلَم أنَّ جميعَ من خرجَ عن الفرقةِ الإثني عشرية من أفرادِ الشيعةِ كالزيديَّة والواقفة والفطحيَّة ونحوها، فإنَّ الظاهر أنَّ حكمهم حكم النواصب». وحكمُ النواصب لديه هو إخراجُهم من الملَّة, والحكم بنجاستهم, وهو ما يعدُّ من النوادر الفقهيَّة, لكنه يشكِّل إثارة تواجه المشهد الفقهيّ المعاصر, مما يستدعي إثارات وتساؤلات كثيرة.
إنَّ سبب ظهور مثل تلك الإشكاليَّات هو التركيز على ما هو جزئي وتجاهل ما هو كلي، والتمسكِ بالفروعِ وتركِ الأصول، والتنقيبِ في الحروف وإهمالِ المقاصد، والتركيزِ على التفاصيل الدقيقة في تقييم السلوك وعدمِ الاكتراث بالنزعةِ الخيرية والمؤشراتِ الأخلاقيَّة وتعبيرِها في سلوك المسلم عن روحِ الدِّين وأهدافِه الإنسانيَّة.
منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقيّ مرجعيَّةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحيانًا. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلميَّة في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكيّ للقواعد الأصوليَّة وغيرها في عمليَّة الإستنباط، وكأنَّه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحلِّ مختلف المسائل الرياضيَّة المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنَّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلاميّ كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العمليّ "الأخلاقيّ, ويشير الشيخ حيدر حب الله إلى ذات الإشكاليَّة من ناحيَّة تضخم العقل الفقهيّ على حساب العقل الأخلاقيّ بقوله: (أظنّ أنَّ من أبرز الإشكاليَّات التي تواجه الفكر الإسلاميّ اليوم هي إشكاليَّات المنهج. وسأكتفي بأنموذج واحد، أظنّ أنَّه على قدْر كبير من الأهمِّيَّة، وهو أنَّنا ندعو إلى إسلام أخلاقيّ وقيمي تكون له الأوّلوية على الإسلام الفقهيّ، دون أن يعني ذلك ـ إطلاقًا ـ أيَّ تجاهُلٍ للفقه الإسلاميّ العريق. إنَّ رسالة الدِّين هي رسالة القيم الأخلاقيَّة والروح. ولم تكن النُّظم الفقهيَّة سوى منظِّم للحياة الإجتماعيَّة، تمهيدًا لسيطرة القيم الأخلاقيِّة. إنَّ تضخُّم العقل الفقهيّ في المؤسّسة الدِّينيَّة على حساب العقل الأخلاقيّ دفعنا إلى الاقتراب أكثر من الطقوس والشكليَّات والإبتعاد عن المضمون والروح والجوهر، فغابَ (فقه المقاصد) لصالح (فقه الحِيَلِ الشَّرعيَّة)؛ لأنَّ الفقه الشّكلانيّ كانت له الهيمنة على القيم الأخلاقيَّة والروحيَّة العليا).
إنَّ تحديد تلك الإشكاليَّة لا يسلب الفقه الإسلاميّ أصالته ومشروعيِّته بأي حال, لكن المنهج الذي يقوم عليه أي علم يقبل النقد كأي من العلوم الأخرى, وفيما يؤكِّد على الروح والمضمون للحكم الفقهيّ يطرح إشكاليَّة الفقه الشكلانيّ التي يتحمل (أصول الفقه) جزء كبيرًا في تكريسها, ذلك أنَّ أصول الفقه يتحرك بعقليَّة أداتيَّة تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الأرسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع, وكمثال بسيط على مشكلة المنطق الأرسطي يمكن اعتبار كلِّ ما يقبل الحقن بالحبر (قلمًا) من دون اعتبار كونه يكتب أو لا يكتب, بينما يرفض الواقع أنْ يعتبر القلم الذي لا يكتب قلمًا إلّا إذا كان صالحًا لكتابة..
هذا مثال بسيط عن الشكلانيَّة التي طغت على التفكير الفقهيّ, وربَّما لم تكن تؤدي إلى نتائج خاطئة على الدوام لكنها في الوقت نفسه تنافي الواقع في الكثير من الأحيان.
إذا ما أردنا طرح السؤال أعلاه على مخرجات الفقه الإسلاميّ, كيف ستكون الإجابة؟ ولكي يتضح بادئًا السؤال, يمكن القول أنَّ إثبات وجود قيم إنسانيَّة في الفقه الإسلاميّ, لا بدَّ أنْ يعتمد على وحدة قياس, ولا بدَّ من وجود معايير تحدِّد طبيعة الحكم الشَّرعيّ على مستوى انسجامه مع القيم الإنسانيَّة, لذا يمكن افتراض مشروعيَّة هذا التساؤل بالبحث عن تلك المعايير, فإذا كان الفقه ينتج أحكامًا تعدُّ مثارًا لجدل من حيث تعسفها بحقِّ بعض الفئات الإجتماعيَّة مثلًا (فقه المرأة...) كيف يمكن علاج تلك الإشكاليَّات؟ على أنَّ الطعن في مشروعيَّة تلك الإشكاليَّات غير كافٍ في حلِّها وهي مسألة مهمة على الصعيد العامِّ, فغالبًا ما يتمُّ التشكيك في مشروعيَّة الشبهة ومصدرها وهذا التشكيك غير كافٍ في إيقاف تَّأثير الشبهة في الأفق الثَّقافيّ والإجتماعيّ.
ومن الناحية المنهجيَّة قد يطرح التساؤل: هل الفقه معني بتحقيق القيم (من الناحية المنهجيَّة)؟ , ولتوضيح التساؤل يمكن تقرير أنَّ سير التفكير الفقهيّ منضبط بمعايير علم الفقه, وهو مقتضى التخصص في العلوم, ومن الواضح أنَّ علم الفقه غير علم الأخلاق, ولكلٍّ منهما منهجه ومسائله ومعاييره على الرغم من وجود العلاقة بينهما من ناحية حاكميَّة القيم على الفقه..., ويمكن تعميق فرضيَّة الإختلاف بما يقدِّمه القانون الوضعيّ من فروق بين القانون والأخلاق عبر إنَّ الهدف من القاعدة القانونيَّة هو استقرار النظام في المجتمع وتحقيق العدل والمساواة، وغايتها نفعيَّة: أي نفع المجتمع وحفظه، أمّا الأخلاق فغايتها، أكثر من ذلك، مثاليَّة تنزع بالفرد نحو الكمال، فهي تأمر بالخير وتنهي عن الشر، وتحث على الفضائل وتوحي بالإبتعاد عن الرذائل، وبالتالي فهي ترسم نموذجًا للشخص الكامل على أساس ما يجب أنْ يكون، لا على أساس ما هو كائن بالفعل، لذلك فالأخلاق توجه أوامرها إلى ضمير الإنسان وتهدف تحقيق الأمن والسلام الداخلي، أمّا القانون فيراهن، أكثر ما يراهن، على تنظيم علاقة الأشخاص فيما بينهم، ويهدف إلى تحقيق الأمن والسلام الخارجي بما يشتمل عليه من أحكام تمنع الإعتداء على الغير.
وربَّما يتبلور التساؤل السابق إلى إشكال نقضي للفرضيَّة التي تؤسس للمفارقة بين الفقه والقيم كذلك يؤدي إلى نقض الاشكاليَّات التي تشكِّك في توافق الفقه مع القيم, لكن اختلاف المنهج لا يمنع من رقابة أحدهما على الآخر, وكما هو واضح ومتفق عليه من ضرورة انسجام الفقه الإسلاميّ مع القيم الأخلاقيِّة, وحاكميَّة القيم على الفقه, فالإختلاف في المنهج لا يؤدي إلى الإختلاف في النتائج, بمعنى أنَّ اختلاف علم القيم / الأخلاق لا يخلق مبررًا لإختلاف نتائج الأحكام الفقهيَّة عن الأحكام الأخلاقيَّة, وهو ما يتمُّ التركيز عليه في البحث, فالحاكميَّة التي يتفق عليها الكثير كيف لها أنْ تتحقق؟
يبدي الأصوليون والفقهاء موقفهم النهائي من التساؤل الأخير بصدد حاكميَّة القيم على الفقه عبر عالم الثبوت بمعنى أنَّ المشرِّع قد ضمن تحقق القيم من مرحلة الجعل (جعل الحكم) فلا داع لافتراض المفارقة بين القيم والفقه حتى على مستوى نتائج كلٍّ منهما, وذلك صحيح على صعيد النَّصِّ الدِّينيّ المؤسس للأحكام الشَّرعيِّة, لكنَّنا بصدد الفقه الذي هو عبارة عن ممارسة فهم للنَّصِّ التَّشريعيّ تهدف إلى استنباط أحكام شَّرعيِّة لم يصرح بها النَّصّ بشكلٍّ مباشر, كذلك تحدد تلك الممارسة الكثير من موضوعات الفقه التي تكون محل تفسير النَّصِّ التَّشريعيّ, وبعبارة موجزة : النَّصُّ التَّشريعيّ (الشَّريِّعة ) غير الفقه (الفهم البشري) القائم على آليات الإجتهاد التي تعدُّ آليات ظنِّية في الأغلب.
ومع ملاحظة الفرق بين الشَّريِّعة والفقه لا يكفي انسجام الحكم الشَّرعيّ مع الحكم الأخلاقيّ في عالم الثبوت و(جعل الحكم) , بل تبدو ضرورة رصد الحاكميَّة في عالم الإثبات واستنباط الحكم من أدلته ومدى اعتبار تحقق القيم في نتائج الاستنباط.
إنَّ اختلاف مجال الفقه عن مجال القيم لا يبرر غياب الإعتبارات الأخلاقيِّة من عمق العمليَّة الإجتهاديَّة في الفقه, فكما لم يغب علم المنطق وعلم اللُّغة من آليات الإستنباط الفقهيّ كذلك ينبغي حضور القيم الأخلاقيَّة في تفاصيل عمليَّة الإجتهاد الفقهيّ, والسبب هو أنَّ الشبهات المطروحة حول الفقه لا علاقة لها بآليات الإجتهاد وكيفية استنباط الحكم من أدلته, بل لها علاقة بالنتائج والمخرجات, فلا ينبغي إغفال النسق الثَّقافيّ الذي ينتجه الفقه, ذلك النسق الذي يتشكَّل عبر مجموعة أفعال وسلوكيِّات منتظمة وتحت شَّريِّعة ناظمة وحاكمة ويصبح هويَّة ثَّقافيِّة, فالحجاب يعدُّ عنصرًا من عناصر تلك الهويَّة أو ذلك النسق, ويشكِّل أيقونة بارزة له, والشبهة التي تطرح ليس من شأنها أدلة الحجاب بقدر ما تحاجج الغاية منه, متسلحة بمفاهيم جديدة وملحة ومفروضة على الواقع بشكلٍّ صادم.
إذن أزمة القيم المفترضة أو المزمعة مرصودة في نتائج علم الفقه أي في مجموعة الأحكام التي ينتهي إليها الفقهاء, تلك الأحكام التي تبني كيانًا اجتماعيًّا له خصائصه وفوارقه التي تميزه عن غيره, وهذا ملحظ هام في إطار الكشف عن جدلية الفقه والقيم, وبوسعي القول أنَّ الجهد الذي يتمّ بذله في استنباط الأحكام الشَّرعيِّة يستدعي جهدًا آخر يعمل على تبرير تلك الأحكام وهي تمثِّل واقعًا اجتماعيًّا ونسقًا ثقافيًّا يواجه كمًّا هائلًا من النقد, والتبرير ليس منقصة وإنَّما يكون في إطار الحوار العلميّ الموضوعيّ الذي يكشف عن عقلانيَّة الفقه عبر استثمار الخزين الثَّقافيّ ضمن مفاهيم فلسفة التَّشريِّع التي بذل المفكرون المعتدلون جهدًا كبيرًا في إبرازها ونشرها.
اعضاء معجبون بهذا
جاري التحميل
ثقافية
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 1 يوم
2024/04/18م
بقلم // مجاهد منعثر منشد هذا الكتاب الموسوم (كتاب مراقد الائمة المعصومين في العراق كما وصفها الرحالة والمسؤولين الأجانب) تأليف أ.د/ عماد جاسم حسن الموسوي أستاذ التاريخ المعاصر في كلية التربية للعلوم الإنسانية في جامعة ذي قار . قدمنا عن المؤلف الباحث سيرة موجزة في قراءتنا على كتابه (دراسات في تاريخ... المزيد
عدد المقالات : 367
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ اسبوعين
2024/04/08م
في زمن بعيد، توجد قوانين قديمة شديدة الأهمية والتأثير، تحمل بين طياتها روح العدل والتوازن. قوانين حمورابي، التي أصدرها الملك حمورابي ملك بابل، تعتبر من بين أقدم النظم القانونية المعروفة في التاريخ الإنساني. أحد هذه القوانين، ينص على المبدأ العريق للعقاب الذي يتناسب مع الجرم، حيث يقول: "إذا ضرب رجل... المزيد
عدد المقالات : 26
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 3 اسابيع
2024/04/02م
يشترط لتقادم حق الدولة في استيفاء الضريبة سريان أو انقضاء أو اكتمال المدة المحددة بموجب القانون لهذا التقادم بأكملها دون أن تمارس الإدارة الضريبية دورها في فرض واستيفاء الضريبة ، إذ لا يتصور أن يبقى الحق في فرض الضريبة قائمـاً أبــد الدهر على الرغم من وجود الإهمال من جانب السلطة المختصة المتمثل بعدم... المزيد
عدد المقالات : 126
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ 1 شهر
2024/03/20م
هو طريقة لأعادة تقييم الرواتب آليا تبعا لتطور بعض المؤشرات الاقتصادية والغاية المبتغاة منه تأمين تطور مماثل لمداخيل الموظفين والمتقاعدين وكلف المعيشة والمحافظة على الراتب الفعلي .هذا ويتفق المختصون بلا شذوذ على ان هناك طرقا ثلاثة لأعاده تقييم الرواتب وهي (1) تعديل آلي عند كل تغيير يطرأ على المؤشر... المزيد
عدد المقالات : 126
أدبية
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2024/02/26م
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن وغادر الطبيب بعد أن أخبر هدى بالحقيقة، وقد مثلت تلك الحقيقة صدمة كبيرة لها، وطفقت تفكر في مآل مَن حولها والصلة التي تربطها بهم. انهمرت الدموع من عينيها، هاتان العينان البريئتان الخضراوان اللتان ما نظرتا قط ما في أيادي غيرها من نعمة؛ بل كانتا تنظران فحسب إلى الأيادي الفارغة... المزيد
عدد المقالات : 39
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2024/02/05م
أ.د. صادق المخزومي الشعر الانساني قلم وفم يتمحور بوحُه حراك الإنسان على وسادة الألم ومقاربة الأمل، ويفصح عن حقائق الحياة الخالدة وحكمها الرفيعة؛ يهدف هذا النوع من الشعر الى نشر معالم الأخلاق وأدبيات المجتمع، وإرساء الحكمة والمعرفة والقيم الدينية والاجتماعية؛ بهذه التمثلات في الانثروبولوجيا... المزيد
عدد المقالات : 12
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2024/02/05م
يا أنتِ يا عِطرَ الغَوالي لا لستُ في قولي اُغالي إنْ قُلتُ أنّكِ شمعتي في نورها هَزمتْ ضَلالي أوْ قُلتُ أنّكِ نجمتي بشُعاعِها وَشَجتْ حِبالي أوْ قُلتُ أنّكِ كوثري يا كوثرَ الماءِ الزُلالِ أوْ قُلتُ أنّكِ بلسمــــي إنْ ساءَ في الازماتِ... المزيد
عدد المقالات : 54
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ 3 شهور
2024/01/19م
أ.د. صادق المخزومي من فنون الأدب، وقد يشمل القصص والكتب والمجلات والقصائد المؤلفة بشكل خاص للأطفال، فالطفولة شريحة عمرية مهمة في المجتمع، وتكون حاجتها للأدب مثلما تحتاجه الشرائح العمرية الأخرى، ولعلها أكثر، لأن الأدب قد يسهم في التربية والتنمية الاجتماعية والثقافية، وينبغي أن يكون هذا النوع الأدبي... المزيد
عدد المقالات : 12
علمية
هو ظاهرة طبيعية مثيرة للإعجاب تلعب دورًا هامًا في حماية كوكب الأرض وفهم علم الفيزياء. يتكون المجال المغناطيسي الأرضي من تأثير القوى المغناطيسية التي تنشأ في النواة الخارجية الملساء للأرض وتنتج حول الكوكب حقلًا مغناطيسيًا يعرف باسم "المجال... المزيد
استلام المتسابق : ( صفاء عماد كامل ) الفائز بالمرتبة الأولى لجائزته في مسابقة #كنز_المعرفة لشهر آذار / 2024 ألف مبارك للأخوة الفائزين، وحظاً أوفر للمشتركين في الأعداد القادمة.. يمكنكم الاشتراك في المسابقة من خلال الرابط : (http://almerja.com/knoze/) المزيد
ما هو التفقيس الصناعي؟ هو عملية توفير الظروف البيئية المناسبة من حرارة ورطوبة وتقليب لبيض الدجاج المخصب داخل حاضنة لضمان فقسه وخروج الكتاكيت. مميزات التفقيس الصناعي: زيادة الإنتاجية: حيث تسمح بفقس كميات كبيرة من البيض في وقت واحد. التحكم في... المزيد
آخر الأعضاء المسجلين

آخر التعليقات
صحابة باعوا دينهم -3[ سمرة بن جندب]
نجم الحجامي
2024/03/05م     
صحابة باعوا دينهم -3[ سمرة بن جندب]
نجم الحجامي
2024/03/05م     
المواطن وحقيقة المواطنة .. الحقوق والواجبات
عبد الخالق الفلاح
2017/06/28م     
شكراً جزيلاً
منذ شهرين
اخترنا لكم
علي عبد الجواد الأسدي
2024/03/26
في مدينة مضطربة كانت ملبّدة بغيوم الجهل وزاخرة بالظلم والاستبداد وقتل الأولاد من إملاق ووأد البنات، مدينة ملأى بأشواك الكفر وعبادة...
المزيد

صورة مختارة
رشفات
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
2024/04/03
( أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ )
المزيد

الموسوعة المعرفية الشاملة
القرآن وعلومة الجغرافية العقائد الاسلامية الزراعة الفقه الاسلامي الفيزياء الحديث والرجال الاحياء الاخلاق والادعية الرياضيات سيرة الرسول وآله الكيمياء اللغة العربية وعلومها الاخبار الادب العربي أضاءات التاريخ وثائقيات القانون المكتبة المصورة
www.almerja.com